بوتين المقامر: ليس سيداً عظيماً، بل مرتجل يُشعل الفوضى للبقاء في السلطة

بقلم أناستازيا إديل، كاتبة ومؤرخة اجتماعية (نقلاً عن مجلة فورين بوليسي – FP)

واشنطن العاصمة – 3 يونيو 2025

في دهاليز الدبلوماسية الدولية، حيث تتصارع القوى الكبرى وتُعاد صياغة السياسات على مرأى ومسمع العالم، يميل البعض إلى تصوير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كـ “سيد لعبة الشطرنج الجيوسياسية”، يقود خطة كبرى ببراعة لا تُضاهى.

لكن هل هذا التصوير دقيق؟ المؤرخة الاجتماعية أناستازيا إديل، في تحليلها العميق لمجلة “فورين بوليسي”، تجادل بأن بوتين ليس سوى “مقامر بارع في استغلال الفرص، لا “سيد عظيم” يتبع استراتيجية شاملة، وهدفه الأوحد هو البقاء في السلطة.

تحوّل مذهل: أمريكا تُدير ظهرها للغرب وتنحاز لموسكو

لطالما نظرت الولايات المتحدة إلى روسيا على أنها منافس، لا حليف، على مدى ثمانين عاماً تقريباً، من الحرب الباردة إلى انهيار الاتحاد السوفيتي.

ولكن، في الأشهر القليلة الأولى من ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثانية، حدث تمزق مذهل في عقيدة ما بعد الحرب.

واشنطن تُدير ظهرها لحلفائها الديمقراطيين التاريخيين، وتتجه نحو تقارب مع موسكو.

هذا التحول يتجلى بوضوح في حرب روسيا المستمرة في أوكرانيا.

فبعد أن زعمت إدارة ترامب كاذبة أن أوكرانيا هي من بدأت الصراع، تحاول واشنطن الآن إجبار كييف على توقيع اتفاق سلام يتنازل عن أراضيها وسيادتها ويحظر عليها الانضمام إلى الناتو.

هذه الشروط هي بالضبط ما أرادته موسكو لعقود طويلة.

إنه منعطف غير متوقع في ثروة بوتين، الذي تسلم السلطة قبل 25 عاماً في روسيا ذات الاقتصاد المحطم والجيش الضعيف وقلة الحلفاء.

فهل هذا دليل على خطة رئيسية محكمة؟ إديل لا تعتقد ذلك.

بوتين: مقامر لا مخطط استراتيجي

ما يبدو وكأنه عبقرية “الواقعية السياسية” (Realpolitik) من جانب بوتين هو، في حقيقة الأمر، “رماية قصيرة المدى متجذرة في تكتيكات جهاز المخابرات السوفيتي (KGB) القديمة.

تهدف هذه التكتيكات إلى قمع الديمقراطية والتلاعب بالرأي العام.

إديل، التي نشأت في الاتحاد السوفيتي، تؤكد أنها واجهت هذه التكتيكات بنفسها.

فبينما كانت المتاجر خاوية من الطعام، كانت الشاشات الحكومية والكتب المدرسية تُبشر بأن الاتحاد السوفيتي هو “زعيم البشرية التقدمية” وأن بقية العالم يحسدها.

ينبع نهج بوتين من استغلال الانقسام الغربي، والاستفادة من لحظات التراجع، والاعتماد على الاضطراب بدلاً من التأثير الدائم. ورغم أن هذه المناورات غالباً ما حققت مكاسب فورية، إلا أنها لم تجعل روسيا شريكاً لا غنى عنه أو موثوقًا به على المسرح العالمي.

بل إن انتهازية بوتين هذه دفعته إلى طريق مسدود استراتيجي طويل الأجل مع تراجع أوروبا أمام عدوانه المستمر.

لقد عكست أهداف الدعاية السوفيتية الدولية دوماً أهدافها الداخلية.

خلال الحرب الباردة، سعت موسكو إلى توسيع نفوذها من خلال تعزيز الحركات الشيوعية وتشويه سمعة الرأسمالية.

ولهذا، نفذت الخدمات الأمنية السوفيتية “إجراءات نشطة” (Active Measures): عمليات سرية لزعزعة الاستقرار من خلال التخريب والأكاذيب والتلاعب النفسي.

وكالة نوفوستي للصحافة، التي أنشئت عام 1961، كانت مفتاحاً لهذه الجهود، تنشر مقالات بلغات أجنبية تُقدم المصالح السوفيتية بمهارة.

من يلتسين إلى بوتين: عودة الدعاية باسم “القوة الشخصية”

أوقف انهيار الاتحاد السوفيتي هذه الجهود مؤقتاً، حيث رأى بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، الغرب كشريك محتمل.

ولكن عندما تفوق بوتين على يلتسين، عادت الدعاية و”الإجراءات النشطة” بقوة. لم يكن الهدف هذه المرة تعزيز أيديولوجية – فروسيا تبنت الرأسمالية – بل توحيد القوة الشخصية لبوتين.

في عام 1999، تحت شعار “مكافحة الإرهاب الإسلامي” بعد سلسلة من تفجيرات المباني السكنية (التي يُشتبه لاحقًا في تسهيلها من قبل خدمات الأمن الروسية)، أطلق بوتين حرب الشيشان الثانية. كانت التغطية التلفزيونية لهذه الحرب على المحطات الحكومية حاسمة لتثبيت أقدام بوتين سياسياً كرئيس للوزراء، مصوراً إياه كمدافع عن الاستقرار الوطني.

لم تتأخر التكتيكات المماثلة الموجهة للجماهير الأجنبية.

ففي عام 2005، أطلق الكرملين شبكة “روسيا اليوم” (RT) التلفزيونية بهدف تقديم صورة “أكثر اكتمالاً” للحياة في روسيا للعالم.

لكن عملياً، أصبحت RT منصة لتصوير الكرملين وتصدير نظرته إلى العالم.

تكتيكات الفوضى: من أوكرانيا إلى بريكست والانتخابات الأمريكية

هذه الدعاية، أو “التهييج” باللغة السوفيتية، تزامنت مع تحول استراتيجي أعمق. مقتنعاً بأن الغرب كان وراء الثورات في جورجيا وأوكرانيا، وباحثاً عن أيديولوجية قابلة للحياة لما بعد السوفيتية، بدأ بوتين في إعادة صياغة هوية روسيا كـ “ثقل موازن للهيمنة الغربية.

لم يتوقف تدخل بوتين في الغرب عند هذا الحد؛ بل كان وسيلة للقضاء على أي تهديد لنظامه. بعد ثورة الميدان الأوروبي عام 2014، اعتبر بوتين رغبة الأوكرانيين في الاندماج مع أوروبا ليس طموحًا ديمقراطياً، بل تدخلاً أجنبياً. لم تكن هذه مجرد خسارة جيوسياسية؛ فإزالة رئيس دولة ما بعد الاتحاد السوفيتي عبر تمرد شعبي وضع سابقة خطيرة.

صعّد بوتين بضم شبه جزيرة القرم ومواجهة العقوبات الغربية بحرب هجينة، مستخدماً أدوات جديدة لتنفيذ تكتيكات الـ KGB القديمة. لعبت وكالة أبحاث الإنترنت (مزرعة ترول أنشئت عام 2013) دوراً رئيسياً في حملات التضليل حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والانتخابات الأمريكية لعام 2016، وغيرها من العمليات الديمقراطية الكبرى، رافعاً الأسلحة الغربية لتقويضها.

وعندما تشبث بوتين بالسلطة بشرعية مشكوك فيها بشكل متزايد – أولاً بتبديل المقاعد مع رئيس وزرائه، ثم بإعادة كتابة الدستور الروسي – كان بحاجة إلى مشروع مستمر. وفر له التدخل في الغرب طرقاً للقيام بذلك: دعم الأحزاب المناهضة للمؤسسة، تنسيق هجمات الفدية، ونشر القوات العسكرية أو الوكيلة لتوجيه الصراعات الإقليمية.

العدوان الأجنبي: قناع للهشاشة الداخلية

ما يبدو أنه يدعم حكم بوتين ليس الثقة، بل الخوف. إنه يحكم من مكان من انعدام الأمن العميق حول شرعية نظامه، وقدمه الاقتصادي، وولاء النخب.

قد تكون نسبة موافقة بوتين مرتفعة، لكن في روسيا يمكن أن يندلع التمرد دون سابق إنذار.

لهذا السبب يحيط نفسه بالمخابرات، ويُعيد توزيع الموالين لمنع أي شخص من اكتساب الكثير من القوة، ويستثمر بكثافة في المراقبة ووسائل الإعلام الحكومية.

العدوان الأجنبي ليس حقيقياً بحد ذاته؛ إنه مظهر ودرع للهشاشة المحلية.

من خلال هذه العدسة، يمكن لسياسة بوتين الخارجية أن تتخلى عن التوسعية لمصلحتها الخاصة فحسب، بل من أجل عزلته.

لكن جهود بوتين في إلقاء الليبرالية الغربية كـ “شذوذ وجودي” قد أتت بنتائج عكسية إلى حد كبير.

فبدلاً من تشكيك التحالفات، أعاد عدوان بوتين إحياءها.

أوروبا الغربية تشهد الآن نهضة عسكرية وصناعية، مدفوعة مباشرة بالتهديد الذي كان بوتين يأمل أن يشلها.

انضمت فنلندا والسويد إلى الناتو، وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة تُجدد دفاعاتها، وهناك دعم متزايد للردع المشترك.

حتى الضمانات النووية، التي كانت لا تُتصور في أوروبا بعد الحرب، تعود إلى الواجهة في المحادثة الاستراتيجية.

حلفاء ضعفاء ورهان خاسر على الصين

غزو روسيا لأوكرانيا قد ثبّت قارة من الدول الديمقراطية المستقرة بشكل استثنائي.

هذه البلدان، بجذورها المؤسسية العميقة ومجتمعاتها المدنية القوية وأطرها الدفاعية المتكاملة، صُممت لامتصاص الصدمات السياسية التي قد تضعف الأنظمة الاستبدادية مثل روسيا.

حتى بدون تورط الولايات المتحدة، فإن التفوق العسكري والاقتصادي لأوروبا يسير نحو التفوق على روسيا. هذا يترك بوتين بخيارات قليلة تتجاوز التخويف والتعطيل.

ومع احتجاز أوروبا على أرضها وتقويض نفوذ روسيا التقليدي في سنوات الحرب، أصبح اعتماد بوتين على الشراكات العالمية أكثر أهمية ولكنه أكثر خطورة أيضاً.

فالحلفاء الرئيسيون لروسيا – إيران وكوريا الشمالية – هم أنظمة ضعيفة اقتصادياً وقمعية، ولها وزن استراتيجي محدود.

ومن غير المرجح أن تكون الصين، شريان الحياة الاقتصادي لروسيا، مفيدة بالقدر الذي يأمله بوتين.

صحيح أن روسيا والصين تشتركان في مصلحة مشتركة في موازنة الهيمنة الأمريكية، لكن أولويات بكين الاستراتيجية تبقى مصالحها الذاتية.

الصين حذرة بشأن دعم الإجراءات التي تزعزع استقرار الأسواق أو تقوض مسارها الاقتصادي، خاصة مع تصاعد حرب التعريفات الجمركية التي تؤجج المواجهة بين الولايات المتحدة والصين.

وفي مواجهة ضغوط اقتصادية متزايدة في الداخل، من غير المرجح أن تضحي الصين باستقرارها المالي من أجل طموحات بوتين في الخارج.

رؤية “فورين بوليسي”: تحطيم أسطورة “السيد العظيم”

تُقدم هذه المقالة من مجلة “فورين بوليسي” (FP) تحليلاً حاسماً ومختلفاً لشخصية فلاديمير بوتين وسياساته، بعيداً عن السرديات السائدة التي تُضفي عليه هالة “المخطط الجيوسياسي العبقري”.

الهدف الأساسي للمجلة من خلال هذا التحليل، الذي قدمته المؤرخة الاجتماعية أناستازيا إديل، يكمن في:

1 . تبديد أسطورة “بوتين السيد العظيم“: تسعى المقالة لتفنيد فكرة أن بوتين يعمل وفق خطة استراتيجية محكمة طويلة الأمد، مُظهرةً إياه كـ “مقامر” يعتمد على الارتجال واستغلال الفرص الفورية لتحقيق هدف واحد: البقاء في السلطة.

هذا يُعيد تصويره من شخصية “عبقرية شريرة” إلى حاكم مدفوع بالخوف وانعدام الأمن الداخلي.

2 . كشف هشاشة النظام الروسي: من خلال ربط العدوان الخارجي بالضعف الداخلي والخوف على الشرعية، تُشير المقالة إلى أن السياسات التوسعية الروسية ليست بالضرورة نابعة من قوة، بل هي قناع للضعف الاقتصادي والسياسي، ومحاولة لتوجيه الانتباه بعيداً عن المشاكل الداخلية.

3 . إعادة تقييم تأثير السياسات الروسية على الغرب: تُظهر المقالة أن تدخلات بوتين في الغرب، والتي هدفت إلى إضعاف التحالفات الديمقراطية، قد أتت بنتائج عكسية.

فبدلاً من شل أوروبا، دفعتها إلى إعادة إحياء قدراتها العسكرية وتوحيد صفوفها، مما يُقلل من النفوذ الروسي على المدى الطويل.

4 . توضيح ديناميكية العلاقات الدولية: تُبرز المقالة أن حلفاء روسيا الرئيسيين (إيران وكوريا الشمالية) ليسوا بقوة كافية لدعم طموحاتها العالمية بشكل فعال، وأن رهانها على الصين محدود بالمصالح الاقتصادية الذاتية لبكين، مما يترك روسيا في وضع استراتيجي محاصر.

قراءة ما وراء الأسطورة في الواقع الحالي

من منظورنا المحايد، تتجاوز مقالة “فورين بوليسي” مجرد التحليل الأكاديمي لتقدم رؤية نقدية تتماس مع الواقع الجيوسياسي الراهن.

بينما تُقدم المقالة رؤية مقنعة لبوتين كـ “مقامر” يرتجل للبقاء في السلطة، وليس كـ “سيد عظيم” يخطط لمؤامرات كبرى، فإن الواقع يُظهر أن هذا “المقامر” نجح، حتى الآن، في تحقيق بعض أهدافه على حساب استقرار النظام الدولي:

. نجاح مؤقت في الاستمرارية:

بغض النظر عن الدوافع (الخوف أو الطموح)، فقد تمكن بوتين من البقاء في السلطة لفترة طويلة، ونجح في قمع المعارضة الداخلية، والحفاظ على قبضته على روسيا.

هذا “الارتجال” يبدو فعالاً من منظور بقاء النظام، حتى وإن كان هشاً من الداخل.

. إعادة تشكيل جزئية للنظام الدولي:

المقالة تُشير إلى أن روسيا تستغل “الانفصال الغربي” وتتجه نحو “إعادة تشكيل سياسة الدول الغربية”.

هذا واقع ملموس جزئياً، حيث أدت تصرفات روسيا إلى انقسامات داخلية في الغرب وتحديات هيكلية للمؤسسات الديمقراطية.

ورغم أن هذا قد يكون “رماية قصيرة المدى”، إلا أن تأثيره على المدى القصير والمتوسط كان واضحاً، لا سيما في المشهد السياسي الأمريكي والأوروبي.

. إعادة إحياء التحالفات الغربية… بثمن:

بينما تُشير المقالة بحق إلى أن عدوان بوتين “أعاد إحياء” حلف الناتو ودفع أوروبا نحو التسلح، إلا أن هذا الإحياء جاء بتكلفة باهظة من زعزعة الاستقرار الإقليمي، ومعاناة أوكرانيا، وتفاقم أزمات الطاقة والاقتصاد العالمي.

هذا ليس بالضرورة فشلاً مطلقاً لبوتين بقدر ما هو إعادة تشكيل للواقع الجيوسياسي بمسار أكثر خطورة.

. التحدي المستمر للنظام الليبرالي:

المقالة تُجادل بأن بوتين استخدم تكتيكات الـ KGB لزعزعة الاستقرار وتآكل الديمقراطية. هذا ليس مجرد تحليل نظري، بل هو واقع تواجهه الديمقراطيات الغربية اليوم في شكل حملات التضليل، والتدخل في الانتخابات، والهجمات السيبرانية.

باختصار، بينما تُقدم “فورين بوليسي” تحليلاً مقنعاً لدوافع بوتين الداخلية (الخوف والبقاء في السلطة)، فإنها لا تُقلل من التأثير الواقعي والخطير لسياساته على المشهد العالمي.

المقالة تُجبرنا على التفكير فيما إذا كان “المقامر” الخائف قد يصبح أكثر خطورة من “السيد العظيم” الواثق، خاصة عندما تكون رهاناته تتلخص في استقرار العالم.

هي دعوة للتفكير النقدي حول الدوافع الكامنة وراء سياسات القوى العظمى، وكيف يمكن للهشاشة الداخلية أن تتحول إلى عدوانية خارجية تؤثر على الجميع.

المزيد من الكاتب

رولان غاروس 2025: الحلم الإيطالي يتألق في سماء باريس!

رولان غاروس 2025: عاصفة باريسية تُسقط ملكة التراب وتُشعل سباق اللقب!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *