اختبار ذوبان الجليد: ميلوني وماكرون.. لقاء الزيت والنار في روما! ليبيا: هل تُحل عقدة الطاقة والهجرة في ظل صراع السلطة وعودة الجيش؟
لطالما كانت العلاقات الفرنسية الإيطالية أشبه برقصة متوترة بين الشراكة الضرورية والخلافات العميقة.
هذه الديناميكية لم تكن أكثر وضوحاً منها في السنوات الأخيرة، خاصة مع تصريحات نارية حول قضايا جيوسياسية واقتصادية حساسة.
تترقب أوروبا والعالم بأسره ما سيحدث يوم الثلاثاء، 3 يونيو 2025، عندما تستقبل رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في روما.
هل هي صدفة أن يتصادف هذا اللقاء مع تصاعد التوترات؟
هل سيتمكن الزعيمان من رأب الصدع، أم أن هذا الاجتماع سيشعل فتيل خلافات أعمق؟
جذور التوتر: صرخة ميلوني المدوية.. "ياللعار يا ماكرون!"
في الثلاثاء 11 ديسمبر 2018، وفي مؤتمر صحفي بإيطاليا، كانت ميلوني تطلق العنان لغضبها، معبرةً عن انزعاجها الكبير من ماكرون.
استهلت حديثها بلهجة لا تخلو من الحدة: “قال إيمانويل ماكرون، وصفنا بالمقرفين وبالساخرين، وبغير المسؤولين.” وهنا، بدأت الصحافة الإيطالية تتساءل في دهشة: “أسمعتم ماذا قال ماكرون؟ قال بأننا غير مسؤولين!”
الرد لم يتأخر. ميلوني واصلت بوضوح وصراحة لم تترك مجالاً للبس: “رداً على ماكرون.
ياللعار!
غير المسؤولين يا إيمانويل ماكرون هم أولئك الذين قاموا بقصف ليبيا، لأنه كان يقلقهم أن تحصل إيطاليا على امتيازات مهمة في مجال الطاقة مع القذافي، وتركونا نواجه فوضى الهجرة غير الشرعية التي تتواجد الآن.
” كانت هذه التصريحات بمثابة قذيفة دبلوماسية، متهمة فرنسا بتحركات أحادية بدوافع ذاتية، وتقويض المصالح الإيطالية الحيوية في منطقة تُعتبر عمقاً استراتيجياً لروما.
ولم تتوقف ميلوني عند هذا الحد. توسعت نيران الخلاف لتشمل القارة الأفريقية، حيث اتهمت فرنسا باستغلال ثروات القارة.
“الساخرون يا إيمانويل ماكرون، هم الفرنسيون الذين يرسلون الدرك، لإعادة أي مهاجر يحاول عبور الحدود في مدينة فانتيميليا. والأهم من ذلك كله… لأنه يجب قول الأشياء بشكل صحيح… المقرف هي فرنسا، التي تستمر في استغلال أفريقيا عبر طباعة النقود لـ 14 بلداً أفريقياً وتفرض عليهم رسوم سك العملة، وعبر تشغيل الأطفال في المناجم، وعبر استخراج المواد الخام، مثلما يحدث في النيجر، حيث تقوم فرنسا باستخراج 30% من مادة اليورانيوم التي تحتاجها لتشغيل مفاعلاتها النووية، في حين أن 90% من سكان النيجر يعيشون بدون كهرباء.
لا تأتي لتقدم لنا دروساً يا ماكرون لأن الأفارقة يهجرون قارتهم بسببكم. والحل ليس نقل الأفارقة إلى أوروبا، بل تحرير أفريقيا من بعض الأوروبيين.
لن نقبل منكم دروساً… هل هذا واضح!” هذه الكلمات النارية لم تكن مجرد انتقاد، بل كانت دعوة صريحة لتغيير جذري في النهج الأوروبي تجاه أفريقيا، وتحديداً النفوذ الفرنسي، وخلق شرخاً عميقاً بين العاصمتين.
الفكرة تولد من رحم المأساة: بارقة أمل أم هدوء ما قبل العاصفة؟
جاءت فكرة هذا اللقاء الثنائي من محادثة قصيرة جمعت ميلوني وماكرون في جنازة البابا فرنسيس. لقطة إنسانية عابرة، وُلدت منها نوايا لتصفير العداد السياسي بعد أشهر من الخلافات الحادة.
تبلورت هذه الفكرة خلال أسابيع قليلة، لتصبح واقعاً يوم الثلاثاء في روما. اختيار روما كمكان للاجتماع ليس صدفة؛ فقد سبق أن استقبل ماكرون رئيسة الوزراء الإيطالية في باريس آخر مرة، مما يعكس بروتوكولاً دبلوماسياً يهدف إلى التوازن.
مصادر في قصر شيغي، بينما كانت ميلوني في سمرقند بأوزبكستان، أكدت أن الأجندة ستركز على مواضيع ثنائية وأوروبية ودولية. لكن السؤال الأهم: هل هذا الاجتماع هو بالفعل محاولة لتخفيف التوترات؟
أم مجرد تكتيك دبلوماسي قبل موجة جديدة من الخلافات؟
الزيت مع النار: أوكرانيا والرسوم الجمركية و"معلومات ماكرون الكاذبة"
اللقاء يأتي في توقيت دقيق وحرج للغاية، حيث تجددت التوترات بين روما وباريس بسبب اختلاف النهج في قضايا محورية. قبل أسبوعين فقط، وبعد اجتماع “الوئيل” الذي غابت عنه ميلوني، نأت رئيسة الوزراء الإيطالية بنفسها مجدداً عن فكرة إرسال قوات إلى أوكرانيا.
هذا الموقف أثار حفيظة ماكرون الذي سارع بالرد، متحدثاً عن “معلومات كاذبة” ومضيفاً بحدة: “هناك ما يكفي من النوع الروسي”.
تصريحات ماكرون هذه، التي كانت أشبه بضربة دبلوماسية، كشفت عن عمق التباين في الاستراتيجيات الأوروبية تجاه الأزمة الأوكرانية، ووضعت ميلوني في موقف دفاعي.
بالإضافة إلى أوكرانيا، ستكون الرسوم الجمركية الأمريكية على الأجندة، حيث يسعى الزعيمان للبحث عن موقف أوروبي موحد.
هذه المسألة الاقتصادية تكتسب أهمية جيوسياسية كبرى، لأنها تمس المصالح الاقتصادية لكلا البلدين وتهدد بتصعيد حرب تجارية عالمية.
إن عدم التوافق الأوروبي في هذا الصدد قد يضعف موقف القارة بأكملها أمام الولايات المتحدة.
الهجرة: هل تُتبع فرنسا خطى ألمانيا وإيطاليا؟
مع اقتراب لقاء ميلوني وماكرون، يبرز تساؤل مهم حول ملف الهجرة. فإيطاليا، بقيادة ميلوني، قد اتخذت خطوات حازمة في ملف الهجرة، بما في ذلك التنسيق مع ألمانيا بشأن مقترح إنشاء مراكز لإعادة المهاجرين إلى “دول ثالثة” وتعديل قانون اللجوء الأوروبي.
هذا التوجه المشترك بين إيطاليا وألمانيا يعكس رغبة في تخفيف الضغط على الدول الحدودية الأوروبية، وتعزيز أمن الحدود الخارجية.
السؤال المطروح الآن هو: هل ستجري ميلوني مباحثات مماثلة مع فرنسا على سياق ما ناقشته مع ألمانيا؟
بالنظر إلى التوجه الأوروبي المتزايد نحو تشديد سياسات الهجرة وإنشاء مراكز لإعادة المهاجرين إلى “دول ثالثة”، فمن المرجح أن يكون هذا الملف على طاولة المفاوضات بين الزعيمين.
ففرنسا، كإيطاليا، تواجه ضغوطاً متزايدة بخصوص ملف الهجرة غير الشرعية، وقد تجد في المقاربة الألمانية-الإيطالية نموذجاً يمكن البناء عليه.
إذا تم التوصل إلى تفاهم مشترك في هذا الصدد، فقد يشكل ذلك جبهة أوروبية موحدة لمواجهة تحديات الهجرة، وستكون ليبيا، بحكم موقعها الجغرافي، محوراً استراتيجياً في أي خطط مستقبلية لإدارة تدفقات الهجرة.
معاهدة كويرينالي: رهينة الخلافات المستمرة
تأثر تنفيذ “معاهدة كويرينالي”، التي وقعها ماكرون وماريو دراجي في عام 2021 بهدف تعزيز التعاون الثنائي، بشكل كبير بسبب هذه الاحتكاكات.
لقد كان الخلاف حول الانتخابات الأوروبية و”ذروة الاشتباك الدبلوماسي في مجموعة السبع في بوليا حول فقرة الاستنتاجات المخصصة للإجهاض” عوامل أبطأت من وتيرة تنفيذ هذه المعاهدة الاستراتيجية.
هذا يؤكد أن الخلافات السياسية يمكن أن تتجاوز حدود التصريحات لتؤثر على الاتفاقيات الثنائية طويلة الأمد.
لقاء حاسم قبل قمم مصيرية: هل يتحقق السلام؟
يلعب المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرز دور الوسيط خلف الكواليس في الأسابيع الأخيرة، في محاولة لتقريب وجهات النظر.
الآن، يجتمع الزعيمان في روما في ضوء أحداث حاسمة قادمة: مجموعة السبع في كندا منتصف يونيو، ومجلس الاتحاد الأوروبي المقرر عقده في غضون شهر.
كما أن ميلوني تستعد لاستضافة مؤتمر إعادة إعمار أوكرانيا في روما يومي 10 و11 يوليو.
الأمل المشترك بين روما وباريس هو أن يتم تحقيق السلام بين كييف وموسكو وفي الشرق الأوسط، بالإضافة إلى السلام التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لكن هل يمكن تحقيق هذه الآمال الكبرى بينما تطل الخلافات العميقة برأسها، وتهدد بإشعال فتيل المزيد من التوترات؟
ليبيا في قلب العاصفة: طاقة، هجرة، وصراع السلطة في ظل استعراضات الجيش
بالنظر إلى الجذور التاريخية للخلافات بين ميلوني وماكرون، خصوصاً اتهام إيطاليا لفرنسا بقصف ليبيا سعياً لامتيازات الطاقة، يبقى السؤال الأهم: هل سيشكل ملف ليبيا نقطة محورية في نقاشات الزعيمين المرتقبة؟
فمن جهة، تتواجد شركة إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية بقوة في قطاع الطاقة الليبي، وتتضارب مصالحهما أحياناً في هذا البلد الغني بالموارد.
ومن جهة أخرى، تشهد ليبيا حالياً تطورات داخلية حساسة. فالمظاهرات المطالبة بإقالة حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس تعكس حالة من عدم الاستقرار السياسي، بينما يأتي الاستعراض القوي للجيش في شرق ليبيا بقيادة المشير خليفة حفتر ليضيف بعداً جديداً للتوترات الجيوسياسية الداخلية والخارجية.
هذه التطورات تضع ميلوني وماكرون أمام تحدٍ معقد: فهل سيتمكن الزعيمان من تجاوز خلافاتهما حول الامتيازات والتنسيق لضمان الاستقرار في ليبيا، لا سيما مع التوجه الأوروبي الجديد نحو إعادة المهاجرين، والذي يجعل من ليبيا بوابة حاسمة في طريق الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا؟
يبقى هذا الملف الشائك على رأس قائمة التحديات التي يجب على ميلوني وماكرون مواجهتها.
مفارقات الزمن: 2366 يوماً من "يا للعار" إلى لقاء الثلاثاء لذوبان الجليد!
يا لها من صدفة مثيرة! فالمؤتمر الصحفي الذي وصفت فيه ميلوني ماكرون بـ”ياللعار” كان في الثلاثاء 11 ديسمبر 2018
والآن، بعد مرور 2366 يوماً بالتمام والكمال، يتجدد اللقاء المرتقب بين الزعيمين في روما، أيضاً في يوم الثلاثاء 3 يونيو 2025
هذا التشابه في يوم الأسبوع بعد كل هذه المدة يضفي طابعاً خاصاً على هذا الاجتماع، ويجعلنا نتساءل: هل سيحمل هذا “الثلاثاء” الجديد مصالحة تاريخية، أم فصلاً آخر من فصول الخلافات؟
يوم الثلاثاء سيكون حاسماً. إنه ليس مجرد لقاء بين رئيسي دولتين؛ إنه اختبار حقيقي لقدرة أوروبا على تجاوز خلافاتها الداخلية في وجه التحديات العالمية.
هل سيتمكن الزعيمان من تنحية الماضي جانباً، ووضع خلافاتهما جانباً، والتركيز على المصالح الأوروبية المشتركة؟
أم أن حدة الخلافات القديمة، وتصريحات ميلوني وماكرون السابقة، ستكون بمثابة الزيت الذي يشتعل فور ملامسته للنار، ليفجر صراعاً دبلوماسياً جديداً قد يمتد إلى قمم قادمة؟
الأيام القادمة، وخصوصاً يوم الثلاثاء، ستحمل الإجابة.