في قاعات بروكسل العتيقة، حيث تُعقد صفقات القوة وتُكتب مستقبلات الأمم، تلوح اليوم شخصية لم يكن أحد يتوقع أن تتربع على قمة النفوذ الأوروبي: جورجيا ميلوني.
لم يعد صوتها مجرد صدى من روما، بل أصبح ريحاً قوية تحرك أشرعة القارة بأكملها، وتُرغم حتى أقدم المؤسسات على التكيف مع نموذجها.
إنها قصة صعود مثير، لا يقتصر على حدود إيطاليا، بل يمثل نقطة تحول كبرى في لعبة السياسة الدولية، حيث يُعاد تعريف معنى القوة، وتُختبر مرونة الديمقراطية.
هذا ليس مجرد مقال عن زعيمة، بل هو مرآة تعكس التحولات العميقة التي تجتاح عالمنا.

الصعود الصعب والمفارقة الكبرى
في أقل من عقد من الزمان، انتقلت جورجيا ميلوني، زعيمة حزب “إخوة إيطاليا” اليميني المتطرف، من شخصية يُنظر إليها باستخفاف إلى رئيسة وزراء تفرض احترامها على الساحة الدولية.
فبعد أن بدأت حياتها السياسية كناشطة في جناح الشباب للحركة الاجتماعية الإيطالية الجديدة التي لها جذور فاشية، وصلت اليوم إلى موقع يمكنها من عقد الصفقات مع واشنطن وبروكسل على حد سواء.

لكن المفارقة تكمن في أن هذا القبول الدولي جاء في الوقت الذي اتُهمت فيه سياستها الداخلية بالتسبب في “تراجع ديمقراطي”، خاصة فيما يتعلق بحرية التعبير.
فقد استخدمت ميلوني المحاكم بشكل روتيني لإسكات منتقديها، ورفعت دعاوى تشهير ضد صحفيين، ومعلمين، بل وحتى مغني روك عالمي وصفها بـ “الفاشية”.
كما وجهت انتقادات علنية للقضاة الذين حكموا ضد سياسات حكومتها، مما أدى إلى تلقي بعضهم تهديدات بالقتل.
الحرب على الحريات وحقوق الأقليات
لم يقتصر الأمر على حرية التعبير، بل امتد ليشمل استهداف مجموعات الأقليات مثل مجتمع المثليين.
فقد منعت حكومتها رؤساء البلديات من إصدار شهادات ميلاد للأطفال المولودين لأزواج من نفس الجنس، ومررت قانوناً يُعاقب الأفراد الذين يلجأون إلى تأجير الأرحام في أي مكان في العالم.

هذه الإجراءات، وفقاً للمنظمات الحقوقية، أدت إلى زيادة ملحوظة في جرائم الكراهية ضد مجتمع الميم في إيطاليا، مما أدى إلى تراجع تصنيف إيطاليا إلى المرتبة 22 من أصل 27 دولة في الاتحاد الأوروبي في مجال احترام حقوق هذه الفئة.
ملف الهجرة: "نموذج ميلوني" يُغري أوروبا
على الصعيد الأوروبي، استغلت ميلوني ببراعة انشغال القارة بأزمة الهجرة لتقديم “نموذجها” الخاص. فقد عملت جنباً إلى جنب مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لعقد صفقات بمليارات اليورو مع دول شمال إفريقيا مثل تونس وموريتانيا، مقابل اعتراض المهاجرين.
لكن خطتها الأكثر جرأة في نقل احتجاز المهاجرين إلى ألبانيا باءت بفشل ذريع، حيث حكم القضاء الإيطالي بعدم قانونيتها، مما حول المبادرة إلى “خط بحري مكلف لنقل المهاجرين ذهاباً وإياباً”.

ورغم هذا الفشل، أظهرت المقالة أن “نموذج ميلوني” قد أثار إعجاب قادة أوروبيين آخرين، بل حتى إن بعضهم من تيار الوسط واليسار قد بدأ في تبني خطاباتها بشأن “إعادة” المهاجرين.
تأثيرها على دول شمال أفريقيا العربية
تعتبر العلاقة بين ميلوني ودول شمال أفريقيا براغماتية إلى حد كبير، وتقوم على تبادل المصالح. فبينما تُعَد تونس وليبيا نقاط تركيز أساسية في استراتيجيتها لمكافحة الهجرة، تُشكّل الجزائر ومصر شركاء استراتيجيين في تأمين إمدادات الطاقة، خاصة بعد انخفاض الغاز الروسي.
تكمن أهمية هذه العلاقة في أن ميلوني تقدم دعماً مالياً وسياسياً مباشراً لهذه الدول، في مقابل تعزيز الرقابة على الحدود.
هذا النهج يمنح الساسة الليبيين والليبيات، على سبيل المثال، ورقة قوية للمساومة، حيث يمكنهم استخدام موقع ليبيا كمركز رئيسي للهجرة وكمصدر للطاقة للحصول على دعم سياسي واقتصادي.
لكن هذا النموذج يحمل في طياته مخاطر، حيث قد يؤدي إلى تفضيل بعض الأطراف السياسية على حساب حل سياسي شامل، وقد يتم التغاضي عن قضايا حقوق الإنسان مقابل تحقيق أهداف مكافحة الهجرة.
علاقات معقدة ومستقبل مجهول
يعزز مكانة ميلوني علاقاتها المعقدة مع شخصيات محورية. فالمقال يكشف عن أن فون دير لاين كانت تحاول كسب دعمها لولاية ثانية، مما جعلها تتسامح مع “الاتجاهات السلبية” في إيطاليا.
وفي المقابل، يظهر المقال علاقة ميلوني بإيلون ماسك، الذي وصفها بـ “الشخصية القوية”، وقدّم لها جائزة.

ومع اقتراب عهد ترامب في الولايات المتحدة، فإن المقال يثير سؤالاً مصيرياً حول مستقبلها: هل ستستمر ميلوني في لعب دور “الشريك الموثوق” مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، أم أنها ستعود إلى جذورها اليمينية المتشددة، وتتحدى المؤسسات، لتصبح بذلك “أوربان على المنشطات” كما وصفها أحد المحللين، وتصبح جسراً بين اليمين المتطرف المتنامي في أوروبا والقوى الشعبوية في الولايات المتحدة؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.
خاتماً
إن صعود جورجيا ميلوني ليس مجرد قصة نجاح سياسي إيطالي، بل هو مؤشر على تحول جيوسياسي عميق يُعيد رسم خارطة القوة في البحر المتوسط.
لقد أثبتت ميلوني أن القوة في القرن الحادي والعشرين لم تعد حكراً على القوى التقليدية، وأن الزعيم البراغماتي القادر على استغلال المخاوف الشعبية يمكنه أن يفرض أجندته على أكبر المؤسسات.

إنها ليست مجرد زعيمة قوية، بل هي استراتيجية متحركة، تستخدم الهجرة كعملة سياسية، والطاقة كنفوذ، لتضع نفسها في قلب أي اتفاق مستقبلي بين أوروبا وشمال أفريقيا.
هذا الواقع الجديد يتطلب من القادة الإقليميين أن يفهموا لعبة المصالح هذه، وأن يستخدموا أوراق قوتهم بذكاء، لأن مستقبل المنطقة قد يعتمد على كيفية تعاملهم مع هذه القوة الصاعدة.