ليبيا بين محكمتين: صراع السيادة والعدالة الدولية في دراما سياسية وقانونية

في قلب بنغازي، وتحديداً في 28 يوليو 2025، صدر حكم قضائي أشعل فتيل الجدل القانوني والسياسي في ليبيا، وأعاد ملف العدالة الدولية إلى الواجهة.

فبينما يصارع الشعب الليبي تبعات الانقسام السياسي ومعاناة الانتهاكات، تُطرح تساؤلات حاسمة حول قدرة المحاكم الليبية على فرض سيادتها في هذا المشهد المعقد، ومدى واقعية ملاحقة المتورطين.

هذه ليست مجرد قضية قانونية؛ إنها قصة درامية تُسرد فصولها على مسرح السياسة الليبية وتكشف عن تعقيدات المشهد وصعوبة تحقيق العدالة.

الخلفية: موافقة مثيرة للجدل وتدخل “الجنائية الدولية”

تبدأ قصتنا في شهر مايو 2025، عندما أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان تلقي المحكمة موافقة من حكومة الوحدة الوطنية (المنتهية ولايتها) على ممارسة اختصاص المحكمة في ليبيا، للتحقيق في الأحداث التي شهدتها البلاد خلال الفترة من 2011 حتى 2027.

اعتبر خان هذه الخطوة “حاسمة نحو تحقيق العدالة” و”تجديد العمل الجماعي بين المحكمة وليبيا”.

كان هذا الإعلان بمثابة الصاعقة في المشهد السياسي الليبي، حيث رأى فيه البعض تعدياً صارخاً على السيادة الوطنية، بينما اعتبره آخرون فرصة لتحقيق العدالة التي غابت طويلاً.

حكومة الوحدة الوطنية، التي أعلنت موافقتها، رأت أن الهدف هو تحقيق العدالة وإنصاف الضحايامؤكدةً على التعاون الكامل مع المحكمة دون تأخير أو استثناء، حتى أنها وصفت ذلك بأنه “متماشٍ مع الاحترام الكامل لسيادة دولة ليبيا وسلامتها الإقليمية واستقلالها ووحدتها”.

المستجدات الدرامية: حكم قضائي ليبي يوقف المسار الدولي

لم يمر إعلان حكومة الوحدة الوطنية مرور الكرام. فبعد أيام قليلة، وتحديداً في 28 يوليو 2025، أصدرت محكمة جنوب بنغازي الابتدائية “أمراً ولائياً قضائياً مستعجلاً، مشمولًا بالنفاذ المعجل بوقف تنفيذ إعلان الحكومة المنتهية الولاية بقبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في ليبيا.

جاء هذا الأمر بناءً على طلب تقدم به رئيس مجلس الوزراء في الحكومة الليبية (المكلفة من مجلس النواب)، الدكتور أسامة حماد.

في طلبه، استند حماد إلى مذكرة قانونية لوزير العدل في حكومته، خالد مسعود، والتي تؤكد أن حكومة الوحدة الوطنية “منتهية الولاية”، وبالتالي فإن إعلانها بقبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية هو “تصرف معدوم الأثر قانوناً، يفتقر إلى السند الدستوري والشرعي، ويعد تعدياً سافراً على مبدأ السيادة الوطنية، واغتصاباً لاختصاص القضاء الليبي المستقل”.

صرخة السيادة: رسالة حكومة حماد إلى المحكمة الجنائية الدولية

لم يتوقف الأمر عند الحكم القضائي الداخلي. ففي نفس اليوم، وجه الدكتور أسامة حماد كتاباً رسمياً إلى رئيس محكمة الجنايات الدولية، يؤكد فيه على عدم مشروعية إعلان حكومة الوحدة الوطنية بقبول اختصاص المحكمة.

رسالة حماد حملت في طياتها نقاطًا قانونية دقيقة وحججًا قوية:

1 . انعدام السند الدستوري والقانوني:

أكد حماد أن الإعلان الدستوري الليبي لا يمنح السلطة التنفيذية صلاحية التنازل عن الولاية القضائية الوطنية أو تفويض اختصاصات السيادة القضائية لأي جهة دولية، وأن هذا لا يجوز إلا بتشريع صادر عن السلطة التشريعية.

2 . انعدام الإلزامية القانونية:

أوضح أن ليبيا ليست طرفاً في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي فهي غير ملزمة بقبول اختصاص المحكمة إلا بإعلان رسمي من جهة دستورية ذات ولاية، وهو ما تفتقده حكومة الوحدة الوطنية بعد سحب الثقة منها من قبل مجلس النواب.

3 . مخالفة مبدأ فصل السلطات:

اعتبر حماد أن قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في هذه الحالة يعد تجاوزاً لصلاحيات السلطة التنفيذية وتعدياً على اختصاصات السلطة التشريعية المنتخبة.

4 . موقف السلطة التشريعية والقضاء الليبي:

استند حماد إلى كتاب رئيس مجلس النواب الصادر في 18 مايو 2025، الذي أكد قدرة واستقلالية القضاء الليبي، وإلى الأمر الولائي الصادر عن محكمة جنوب بنغازي الابتدائية بوقف تنفيذ إعلان حكومة الوحدة الوطنية.

وختم حماد رسالته بمطالبة المحكمة الجنائية الدولية “باحترام إرادة الدولة الليبية ومؤسساتها الشرعية، وعدم الانجرار وراء خطوات أحادية تصدر من أجسام سياسية فاقدة للشرعية، حفاظاً على مبدأ سيادة الدولة وولاية القضاء الوطني الليبي”.

القضاء الليبي والواقع: هل يحمل الحكم قوة التنفيذ؟

هنا تكمن العقدة الدرامية الحقيقية. فبينما يصدر القضاء الليبي أحكاماً “مشمولة بالنفاذ المعجل” في محاولة لفرض السيادة الوطنية، يطرح السؤال الكبير: هل فعلاً المحاكم الليبية، في ظل الانقسام السياسي الحالي، قادرة على تنفيذ الأحكام بشكل عادل وملاحقة المتورطين؟

. واقع النفوذ السياسي:

للأسف، المشهد الليبي الراهن بعيد عن الواقع المثالي الذي يسمح بتطبيق الأحكام القضائية بشكل سلس.

النفوذ السياسي، وتعدد مراكز القوى، وحتى السيطرة الفعلية على الأرض، غالباً ما تقف حائلاً دون تنفيذ الأحكام القضائية، خاصة تلك التي تمس أطرافاً ذات نفوذ.

. التحديات الأمنية:

البيئة الأمنية الهشة تعيق عمل القضاء وتجعل تنفيذ الأحكام، خاصة ضد شخصيات أو جماعات قوية، تحديًا هائلاً.

. ثقة المواطن:

مدى ثقة المواطن الليبي في قدرة المحاكم على تحقيق العدالة وإنفاذ القانون يظل متذبذباً في ظل هذه الظروف.

إن هذا الحكم، وإن كان يمثل انتصاراً قانونياً لمبدأ السيادة الوطنية من وجهة نظر حكومة حماد، فإنه يضع الكرة في ملعب المحكمة الجنائية الدولية.

هل ستعتد المحكمة بهذا الحكم القضائي الليبي؟ أم ستستمر في إجراءاتها بناءً على موافقة حكومة الوحدة الوطنية؟

التوقعات والاحتمالات وردود الفعل: ضريبة الانقسام على الشعب الليبي

. رد فعل المحكمة الجنائية الدولية:

قد تواجه المحكمة الجنائية الدولية موقفاً معقداً. فمن ناحية، ترغب في التعاون مع الجهات الليبية لتحقيق العدالة، ومن ناحية أخرى، هي أمام حكم قضائي ليبي صريح ومذكرة قانونية مفصلة ترفض اختصاصها وتشكك في شرعية الموافقة الأولى.

قد تتجه المحكمة إلى إعادة تقييم موقفها القانوني أو طلب توضيحات إضافية من الأطراف الليبية.

. تصعيد سياسي داخلي:

من المتوقع أن يزيد هذا الحكم من حدة التوتر بين الحكومتين المتنافستين في ليبيا. كل طرف سيستخدم هذا الحكم لتعزيز موقفه الشرعي والتشكيك في شرعية الطرف الآخر.

. التدخلات الخارجية:

هذه الانقسامات القانونية والسياسية تفتح الباب على مصراعيه أمام المزيد من التدخلات الخارجية، التي قد تستغل هذا التضارب لخدمة أجنداتها الخاصة، مما يزيد من تعقيد المشهد.

. الضرر الذي يلحق بالشعب الليبي:

في خضم هذه الصراعات القانونية والسياسية، يبقى المواطن الليبي هو الخاسر الأكبر.

.. غياب العدالة الحقيقية:

استمرار الانقسام يعني غياب مؤسسات قضائية تنفيذية موحدة وقوية، مما يعيق تحقيق العدالة الفاعلة للمتضررين من الانتهاكات.

.. تفاقم المعاناة:

عدم الاستقرار السياسي والقانوني يفاقم معاناة الشعب الليبي على جميع الأصعدة، من الاقتصادية إلى الأمنية والاجتماعية.

.. فقدان الثقة: يؤدي هذا المشهد إلى فقدان الثقة في قدرة الدولة ومؤسساتها على توفير الأمن والعدالة والخدمات الأساسية.

تؤكد هذه القصة الدرامية أن ليبيا ترفض التدخلات الأجنبية وتتمسك بسيادتها، لكن التحدي الأكبر يكمن في مدى قدرتها على ترجمة هذه السيادة إلى واقع ملموس، حيث يكون القضاء الليبي هو الفيصل الحقيقي، وتُنفذ أحكامه دون عداخلات أو عراقيل، لكي يشعر المواطن الليبي بالعدالة ويلمس نتائجها على أرض الواقع.

المزيد من الكاتب

🇱🇾 دبلوماسية متجددة: ليبيا وموريتانيا… آفاق رحبة لعلاقات أخوية متينة 🇲🇷

تحليل معمق: ورشة عمل طرابلس – دفعة قوية لكفاءة الطاقة في ليبيا نحو مستقبل أخضر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *