اغتيال كيرك كبؤرة للصراع الجيوسياسي
لم يكن تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول اغتيال الناشط المحافظ الأمريكي تشارلي كيرك مجرد إدانة لجريمة. بل كان بياناً استراتيجياً مدروساً بعناية، صدر من منتدى دولي (سوتشي)، يهدف إلى تكييف صدمة العنف السياسي الأمريكي لخدمة أجندة الكرملين الجيوسياسية.
إن ربط مقتل كيرك بـ “الانقسام العميق” في المجتمع الأمريكي ليس تشخيصاً، بل هو تكتيك يهدف إلى تقويض القوة الناعمة الأمريكية وإظهار روسيا كـ “حامية” للقيم المحافظة عالمياً. هذا المقال يحلل الأبعاد الاستراتيجية لهذا الخطاب وتداعياته على الساحة الدولية.
1 . 1 مواءمة الأيديولوجيا: إنشاء جبهة موحدة مع اليمين الأمريكي
يُظهر خطاب بوتين تحولًا في استراتيجية موسكو من مجرد “المعارضة” إلى “المواءمة الأيديولوجية” مع شريحة رئيسية من الناخبين الأمريكيين.
. الرمزية والاستقطاب: وصف بوتين كيرك بـ “البطل” وربطه بـ مايكل غلوس (الجندي الروسي المقتول في أوكرانيا) يُشكل تصعيداً رمزياً. إنه يرفع قضية كيرك من حادثة عنف جنائي إلى صراع على القيم الحضارية المشتركة (المحافظة) بين موسكو وقاعدة MAGA في واشنطن. هذا يرسخ سردية مفادها أن الليبرالية والـ “woke” هما الخطر المشترك الذي يهدد الهويات الوطنية والتقليدية في الغرب.
. تغذية الشكوك الداخلية: هذا التكتيك يغذي الشكوك التي يثيرها المسؤولون الأمريكيون أنفسهم (مثل حاكم يوتا سبنسر كوكس) حول دور الخصوم الأجانب في تأجيج العنف والانقسام. الكرملين لا يحتاج إلى اختراع الانقسام، بل يكتفي باستغلاله وتضخيمه ليصبح أداة إقناع للجمهور الأمريكي بأن مشاكله أعمق من قدرة نظامه على حلها.
1 . 2 استنزاف القوة الناعمة: إظهار واشنطن كقوة مشتتة
في علم الجيوسياسة، تُعتبر “القوة الناعمة” أو القدرة على عرض الاستقرار الداخلي والمثل العليا، ركيزة أساسية للهيمنة. خطاب بوتين يستهدف هذه الركيزة مباشرة.
. تقويض المصداقية العالمية: من خلال تسليط الضوء على “الصدع العميق” والعنف السياسي، يُقدم بوتين الولايات المتحدة كـ “قوة عظمى” متهاوية ومستهلكة بالصراع الداخلي. وهذا يُضعف مكانتها عالمياً، لا سيما لدى الحلفاء في أوروبا وآسيا الذين يعتمدون على استقرار واشنطن في مواجهة التحديات الخارجية.
. تشتيت الانتباه عن أوكرانيا: يُمكّن التركيز على الانقسام الداخلي موسكو من صرف الانتباه عن جرائم الحرب أو التحديات التي تواجهها في أوكرانيا. فبينما تحذر روسيا من إمداد كييف بصواريخ “توماهوك”، فإنها تستعرض انشغال واشنطن بـ “جنرالاتها البدينين” وبصراعاتها الثقافية الداخلية، مما يوحي بأن روسيا (كقوة موحدة) هي الأجدر بالقيادة.
1 . 3 مناورة “ترامب – أوكرانيا”: التهديد بعصا والوعد بجزرة
يُظهر الخطاب دبلوماسية “الموازنة الحذرة” بين دعم التعاون مع الإدارة الحالية ورسم خطوط حمراء عسكرية واضحة.
. الثناء السياسي: إشادة بوتين بالرئيس ترامب وبقمة ألاسكا “المُنتجة” يعزز صورة ترامب كـ “صانع سلام” قادر على التفاوض مع الكرملين.
وهذا دعم ضمني يخدم أجندة ترامب الداخلية، ويزيد من الضغط على النخبة السياسية الأمريكية للقبول بعلاقة أكثر تعاوناً مع روسيا.
. الخط الأحمر العسكري: في الوقت ذاته، فإن التحذير الصارم من صواريخ “توماهوك” ليس مجرد تهديد، بل هو تحديد دقيق لسقف التصعيد.
موسكو تُعلن أنها مستعدة للتفاوض مع واشنطن (الجزرة) لكنها لن تتسامح مع أدوات جديدة لضرب عمقها الاستراتيجي (العصا).
خاتمة: الانقسام كسلاح في القرن الحادي والعشرين
إن تحليل رد فعل بوتين يوصلنا إلى استنتاج استراتيجي مهم: في القرن الحادي والعشرين، أصبحت النقاط الأيديولوجية الضعيفة للخصم سلاحاً لا يقل فتكاً عن الصواريخ.
لقد نجح الكرملين في تدويل صدمة اغتيال كيرك وتحويلها إلى دليل على تفكك الديمقراطية الغربية.
يتطلب هذا الواقع من واشنطن إعادة تقييم شاملة ليس فقط لسياساتها الخارجية، بل لكيفية إدارة خطابها الداخلي.
إن قدرة الخصم على استغلال التصدعات الاجتماعية العميقة لتقويض المكانة العالمية هي أخطر تحدٍ تواجهه الديمقراطية الأمريكية حالياً، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية.
