إيقاف إدارة مستشفى طرابلس المركزي: صراع متعدد الأوجه بين المسؤولية الرسمية، كرامة المهنة، وسخط الشارع

إيقاف إدارة مستشفى طرابلس المركزي: صراع متعدد الأوجه بين المسؤولية الرسمية، كرامة المهنة، وسخط الشارع

في خطوة غير مسبوقة، أصدر رئيس هيئة الرقابة الإدارية، السيد عبد الله قادربوه، قرارًا بوقف إدارة مستشفى طرابلس المركزي عن العمل احتياطياً، وذلك عقب زيارة ميدانية مفاجئة كشفت عن تدهور كارثي في الأوضاع.

هذا الإجراء، الذي استند إلى صلاحيات قانونية واضحة، أطلق موجة عارمة من ردود الفعل، كاشفاً عن حالة السخط العام من واقع القطاع الصحي في ليبيا.

القرار وأبعاده القانونية

تستند هيئة الرقابة الإدارية في قرارها إلى القانون رقم (20) لسنة 2013، الذي يحدد اختصاصاتها وصلاحياتها.

. الأسانيد القانونية:

جاء القرار وفقاً للمادة (30) التي تمنح رئيس الهيئة صلاحية “إيقاف من تسبب في إلحاق الضرر عن العمل” بشكل مؤقت، والمادة (31) التي تفوضه في اتخاذ هذا الإجراء لحماية سير التحقيقات.

هذا يعني أن القرار هو إجراء إداري احترازي، وليس حكماً نهائياً بالإدانة.

. الإجراءات اللاحقة للقرار:

بعد صدور قرار الإيقاف المؤقت، تبدأ مرحلة جديدة من الإجراءات القانونية. يتم إحالة المسؤولين الموقوفين إلى التحقيق، حيث يتم فحص الأدلة والوقائع التي تم رصدها.

يمكن أن يؤدي هذا التحقيق إلى إحالة الملف إلى النيابة العامة لمساءلة جنائية، أو إلى مجلس التأديب لمساءلة إدارية، أو قد ينتهي بحفظ التحقيق إذا لم تثبت المخالفات.

بيان النقابة: استنكار للأسلوب لا للهدف

في أعقاب قرار الإيقاف، أصدرت النقابة العامة للأطباء في ليبيا بياناً رسمياً أثار جدلاً واسعاً. أكدت النقابة في بيانها احترامها لدور المؤسسات الرقابية وحرصها على مكافحة الفساد، لكنها في الوقت نفسه استنكرت بشدة “الإهانة والتشهير” الذي تعرض له الأطباء.

يتمثل جوهر موقف النقابة في أن الأسلوب الذي اتبعته الرقابة كان “غير مهني” و “مذلاً”، مشددة على أن المساءلة يجب أن تتم وفق الأطر القانونية التي تحفظ كرامة العاملين.

وهددت النقابة باتخاذ كافة الإجراءات القانونية لمحاسبة كل من أساء لكرامة الأطباء.

ردود الفعل: المريض أولاً أم كرامة الطبيب؟

أحدث بيان النقابة انقساماً حاداً في الرأي العام، حيث تحول الجدل من قضية فساد إداري إلى صراع بين ضرورة المساءلة وكرامة المهنة.

يمكن تلخيص ردود الفعل الرئيسية للمواطنين على صفحة النقابة في النقاط التالية:

. تفاعل رقمي معقد:

حظي بيان النقابة بـ 2100 إعجاب، كما حصد 175 تعبير “أحببته” و 60 تعبير “ادعمه”، في مقابل 10 تعابير “غاضب” و 4 تعابير “حزين”.

تُظهر هذه الأرقام أن عدداً كبيراً من المتابعين أظهروا دعماً صامتاً لموقف النقابة، على الرغم من أن الجدل في التعليقات كان أكثر حدة.

. انتقادات حادة للنقابة:

وجهت غالبية التعليقات انتقادات لاذعة لموقف النقابة، متهمة إياها بالدفاع عن “الفساد والمقصرين” بدلاً من الدفاع عن المريض.

عبر العديد عن غضبهم، وتساءلوا بمرارة: “وييينكم لما الليبيين مش لاقيين الشاش؟” و “وييينكم لما الناس ماتوا بالجرثومة؟”.

واعتبر آخرون أن البيان “هزيل” و”ضعيف”، وأن النقابة “تحشم على وجهها” بدفاعها عن الأطباء الذين أهملوا واجباتهم.

. دعم مطلق للرقابة: رأى عدد كبير من المواطنين أن التدهور الكارثي في المستشفى يبرر أي “أسلوب خشن”، وأن الكرامة الحقيقية تكمن في تقديم الخدمة الجيدة للمريض.

اعتبروا أن “أرواح الناس مش لعبة” وأن ما فعله رئيس الرقابة كان هو “الصح”، مطالبين بالمزيد من الإجراءات المشابهة في قطاعات أخرى.

. تشكيك في الطرفين: أظهرت بعض التعليقات حالة من اليأس من المشهد العام، حيث انتقدت انشغال الطرفين (الرقابة والنقابة) بـ “أسلوب الزيارة” بدلاً من التركيز على حل المشكلة الأساسية.

وصل الأمر ببعضهم إلى التشكيك في دوافع الأطباء، معتبرين أن معظمهم يهتم بـ “العيادات الخاصة” و “الراتب التقاعدي” فقط.

تحليل الأبعاد الاستراتيجية والنتائج المترتبة

تتجاوز زيارة رئيس هيئة الرقابة الإدارية وقراره اللاحق كونهما مجرد إجراءات إدارية، لتدخلا في إطار التحركات ذات الأبعاد الاستراتيجية الواضحة:

. الأسلوب العلني: توثيق أم تشهير؟ إن قرار رئيس الهيئة بتوثيق الزيارة بالفيديو ونشرها علناً يعكس فهماً للواقع الشعبي. في ظل غياب الثقة بالمؤسسات التقليدية، يُصبح “التحرك أمام الكاميرا” وسيلة فعالة لإثبات الجدية والشفافية.

يرى البعض أن هذا الأسلوب هو تحرك جيد ومباشر يخلق نوعاً من الرادع، ويُحقق أهداف المساءلة بطريقة سريعة بعيداً عن بيروقراطية الإجراءات الطويلة.

لكن في المقابل، يراه آخرون بمثابة “الشو الإعلامي” الذي يهدف إلى استعراض القوة دون تحقيق نتائج مستدامة.

. أداة التصوير كدليل مادي: إن توثيق الأوضاع بالكاميرا يمثل دليلاً مادياً قوياً. فالتصوير المفاجئ يكشف عن مساوئ في التخزين، وممارسات إدارية خاطئة، ووضع الأجهزة، وتخزين الأدوية، بطريقة لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها.

هذا الدليل المرئي يتجاوز الحاجة إلى التقارير الكتابية أو الشهادات الشفهية، ويضع الحقائق أمام الرأي العام بشكل مباشر.

. تأثير القرار على وزارة الصحة: يضع هذا القرار وزارة الصحة في موقف حرج، حيث يُظهرها كطرف غير قادر على إدارة قطاع حيوي وتُحاسبها جهة رقابية خارجية. هذا النقد العلني يُمكن أن يؤدي إلى:

أولاً، إثارة حالة من الاضطراب داخل الوزارة وفقدان السيطرة على إداراتها.

ثانياً، دفع الوزارة إلى اتخاذ إجراءات استباقية جذرية لإثبات وجودها ومحاولة استعادة الثقة المفقودة.

ثالثاً، قد يُعمّق حالة انعدام الثقة بين المواطنين والوزارة، مما يجعلهم يلجأون بشكل أكبر للجهات الرقابية بدلاً من المؤسسات التنفيذية.

. دلالات المطالبات الشعبية: إن طلبات المواطنين من رئيس هيئة الرقابة بزيارة مستشفيات أخرى مثل الجلاء، وبوسليم، وغريان تحمل دلالات عميقة.

فهي تعني أن المواطنين لا يرون مستشفى طرابلس المركزي كحالة فردية، بل كجزء من أزمة فساد وإهمال واسعة النطاق تشمل القطاع الصحي بأكمله.

تُشير هذه الطلبات إلى وجود رغبة شعبية في أن تتحول هذه الخطوة الفردية إلى حملة شاملة للمساءلة، وأن يكون رئيس هيئة الرقابة هو “المنقذ” الذي يتجاوز تقاعس المسؤولين التقليديين.

ثانياً، دفع الوزارة إلى اتخاذ إجراءات استباقية جذرية لإثبات وجودها ومحاولة استعادة الثقة المفقودة.

ثالثاً، قد يُعمّق حالة انعدام الثقة بين المواطنين والوزارة، مما يجعلهم يلجأون بشكل أكبر للجهات الرقابية بدلاً من المؤسسات التنفيذية.

خاتمة: صراع متجذر

تُظهر ردود الفعل على هذا الحدث أن الأزمة في ليبيا أعمق من مجرد فساد إداري. هي صراع متجذر بين مؤسسات الدولة التي تحاول إثبات وجودها، ومهنة تحاول الحفاظ على كرامتها، وبين شعب يائس يبحث عن أي بصيص أمل في قطاع يعاني من الانهيار.

في ظل التجاذب بين المنهجين، هل ترى أن هذه الخطوة ستكون بداية لإصلاح جذري في القطاع الصحي، أم أنها ستظل مجرد حالة فردية؟

المزيد من الكاتب

طموح الأبطال: الأهلي بين قمة العالم وصدارة العرب

 دوري أبطال أوروبا: ليلة كروية لن تُنسى!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *