افتتاحية تحليلية: مسارات الحل في ليبيا… هل الخطة الأممية الجديدة قادرة على تجاوز “فخ الإرادة”؟

بينما تتوالى خطط السلام الأممية وتتعاقب البيانات السياسية، يظل الشعب الليبي هو من يدفع ثمن الفوضى. فكل تأخير في الحل يعني المزيد من المعاناة الاقتصادية، واستمرار حالة عدم اليقين، وتآكل الأحلام التي دفع الليبيون دماءهم من أجل تحقيقها.

افتتاحية تحليلية: مسارات الحل في ليبيا... هل الخطة الأممية الجديدة قادرة على تجاوز "فخ الإرادة"؟

بعد فشل ذريع للانتخابات الوطنية في عام 2021، التي كان يُنظر إليها كفرصة حاسمة لإنهاء عقد من الفوضى، تعود الأمم المتحدة بخارطة طريق جديدة.

ومع أن المبعوثة الأممية هانا تيتيه تؤكد أن الخطة تستند إلى دروس الماضي وإرادة الشعب، إلا أن ردود الفعل الأولية للأطراف الليبية تكشف عن أن التحدي الحقيقي ليس في الخارطة نفسها، بل في غياب “الإرادة السياسية” الصادقة لتجاوز المصالح الخاصة.

خارطة الطريق الأممية: حبر على ورق أم حل عملي؟

تتركز الخطة الأممية الجديدة على ثلاثة محاور رئيسية: وضع إطار انتخابي قابل للتطبيق، توحيد المؤسسات عبر حكومة جديدة، وإطلاق حوار شامل.

وتأتي هذه الخطة مدعومة بإحصائيات واضحة: نسبة مشاركة بلغت 71% في الانتخابات البلدية الأخيرة، ونتائج استطلاع رأي أظهر أن 42% من الليبيين يفضلون انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة.

هذه الأرقام تُعد دليلاً قاطعاً على أن الشعب الليبي يتوق إلى إنهاء المراحل الانتقالية المتتالية.

لكن الأمم المتحدة تدرك أن التحدي ليس في رغبة الشعب، بل في عوائق “اللاعبين” السياسيين. لهذا، تتضمن الخطة بنداً حيوياً: اللجوء إلى “حلول بديلة” في حال قام أي طرف بعرقلة التقدم.

وهذا البند تحديداً يعكس الدرس المستفاد من فشل 2021، حينما أدت الخلافات حول القاعدة الدستورية وقوانين الانتخابات إلى تعطيل العملية بالكامل.

قراءة في ردود الفعل... ترحيب ظاهري وتناقض خفي

تبدو ردود الفعل الأولية للأطراف السياسية في ظاهرها مرحبة بالخطة الأممية، ولكن التحليل العميق يكشف عن تناقضات خطيرة:

. موقف تكتل الأحزاب السياسية: على عكس الأجسام السياسية القائمة، جاء بيان صادر عن تكتل يضم أحزاب السلام والازدهار” و”المدني الديمقراطي” و”ليبيا الامة- الليبو” و”الوطني الوسطي” و”الاتحادي الوطني” و”الحركة الوطنية” و”تجمع الإرادة الوطنية” و”ليبيا للجميع، رافضاً بشكل قاطع لخارطة الطريق.

فقد وصفها البيان بأنها “تُطيل الأزمة” و”تُبقي على سلطات الأمر الواقع المنتهية الصلاحية”. وشدد البيان على أن أي مسار لا ينطلق من “الملكية الوطنية” للحل، ويقصي القوى المدنية والأحزاب، سيواجه بـ “مقاومة سياسية وشعبية سلمية”.

. موقف حزب ليبيا الكرامة: أكد الحزب دعمه لخارطة الطريق الأممية، لكنه ربط ذلك بأهمية دور القوات المسلحة في حماية المسار الوطني، مما يضيف شرطاً خاصاً به يعكس أجندة معينة.

. حكومة الوحدة الوطنية: أعلن رئيسها عبد الحميد الدبيبة عن دعمه لخارطة الطريق، ولكنه اشترط أن تكون القوانين الانتخابية قابلة للتنفيذ.

وهذا الشرط يثير تساؤلات حول القوانين التي سبق أن أصدرها مجلس النواب، والتي رفضتها حكومة الوحدة الوطنية في الماضي، ما يجعل التوافق على الأساس القانوني للانتخابات شرطاً أساسياً.

. مجلس النواب وحكومة أسامة حماد: يُرحب رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، بدعوة الأمم المتحدة لتشكيل حكومة موحدة جديدة، لكنه في نفس البيان يؤكد أن حكومة أسامة حماد هي الحكومة “الشرعية”.

وهذا التناقض الجوهري يضع عقبة أمام الخطة، فالمجلس يرفض أي حكومة لا تنبثق عن شرعيته المزعومة.

هذا الموقف لا يتوقف عند التصريحات؛ فقد أكدت المبعوثة الأممية أن الحكومة في الشرق هي من أمرت بتعليق الانتخابات البلدية في 16 بلدية، مما يكشف عن هوة واسعة بين الأقوال والأفعال.

. المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة: تبنت هاتان الهيئتان موقفاً أكثر دبلوماسية وواقعية. فالمجلس الرئاسي شدد على ضرورة أن تستند أي خارطة طريق إلى الملكية الليبية، مما يعكس الرغبة في إيجاد حل توافقي داخلي بعيداً عن الإملاءات الخارجية.

أما المجلس الأعلى للدولة، فقد رحب بالخطة، وأكد على التزامه بـ “الاتفاق السياسي الليبي”، الذي يرى فيه أساساً دستورياً للحل. ورغم أن هذا الموقف يبدو إيجابياً، إلا أن الخلافات البينية بينه وبين مجلس النواب حول “الاتفاق السياسي” تظل قائمة، مما يجعل تحقيق التوافق أمراً صعباً.

أبعاد الأزمة... لماذا يستمر الجمود؟

تتجاوز الأزمة الليبية مجرد الخلافات بين الأطراف المحلية إلى أبعاد أوسع:

. الأجندات الشخصية: تؤثر طموحات وأجندات الشخصيات الرئيسية (عقيلة صالح، خليفة حفتر، عبد الحميد الدبيبة، وخالد المشري) بشكل مباشر على مواقف مؤسساتهم.

فهم يضعون أولوية لمواقعهم ونفوذهم على حساب مصلحة الشعب، ويعرقلون أي حل قد يُفقدهم سلطتهم.

. التدخلات الخارجية: تحضر المصالح الجيوسياسية لدول مثل مصر، وتركيا، وروسيا بقوة على الساحة. كل طرف إقليمي يدعم حليفه المحلي من أجل تأمين مصالحه الاقتصادية (النفط والغاز) والأمنية، مما يزيد من تعقيد المشهد.

. البعدان الأمني والاقتصادي: لا يزال الوضع الأمني متردياً، مع تزايد التحشيد العسكري والتوترات بين الفصائل المسلحة. وعلى الصعيد الاقتصادي، يعيق الفساد المستشري والإنفاق الموازي أي محاولات لتوحيد مؤسسات الدولة مثل المصرف المركزي ومؤسسة النفط، مما يجعل أي حكومة جديدة تواجه تحديات هائلة. والأخطر، أن العرقلة لم تعد تقتصر على السياسة؛ فاستهداف مبنى الأمم المتحدة بصاروخ بالتزامن مع الإحاطة الأممية هو دليل على أن “المعطلين” مستعدون لاستخدام القوة العسكرية لنسف أي جهود سياسية.

المجتمع الدولي... أداة للحل أم عائق مستمر؟

المجتمع الدولي… أداة للحل أم عائق مستمر؟

بناءً على التحليل، يبدو أن المصالح المتضاربة للمجتمع الدولي ستبقى العائق الرئيسي أمام نجاح أي خطة، بما فيها الخطة الأممية الجديدة.

. غياب الإجماع الدولي: تتطلب خطة الأمم المتحدة، بحسب إحاطة المبعوثة الخاصة هانا تيتيه، “دعماً مطلقاً” من مجلس الأمن والأطراف الخارجية الرئيسية. لكن الواقع يظهر أن هذا الإجماع غائب.

فالدول الكبرى، مثل روسيا وتركيا ومصر، لديها مصالح متضاربة على الأرض، وتدعم أطرافاً مختلفة. هذه الدول تتردد في الضغط على حلفائها المحليين خوفاً من خسارة نفوذها الاقتصادي والاستراتيجي، سواء في قطاع النفط والغاز أو في المعادلة الأمنية.

. التردد في فرض العقوبات: المبعوثة الأممية كانت واضحة في مطالبتها لمجلس الأمن بـ “محاسبة المعرقلين، بما في ذلك من خلال فرض عقوبات إن لزم الأمر”.

هذا النداء يؤكد أن الضغط الفعلي هو مفتاح الحل. لكن سجل مجلس الأمن في فرض عقوبات موحدة وفعالة على الأطراف المتنازعة ضعيف، بسبب استخدام حق النقض (الفيتو) من قبل بعض الأعضاء لحماية حلفائهم، مما يقلل من أي إرادة حقيقية لفرض المساءلة.

. التناقض بين الخطاب والفعل: تماماً كما هو الحال مع الأطراف الليبية التي ترحب علناً بالانتخابات بينما تعرقلها سراً، فإن العديد من القوى الدولية تتبنى خطاباً موحداً في المحافل الدولية (مثل عملية برلين)، لكنها في الواقع تستمر في تغذية حالة الانقسام على الأرض من خلال الدعم السياسي أو العسكري لشركائها المحليين.

توقعات نجاح الخطة... وماذا بعد الفشل؟

في ظل التناقضات الداخلية والخارجية التي كشفها التحليل، تبدو فرص نجاح الخطة الأممية في تحقيق أهدافها الكاملة ضعيفة، ما لم يحدث تغيير جذري في مواقف الأطراف. وإذا لم تنجح الخطة، فإن التداعيات ستكون شاملة على كافة المستويات:

. على الشعب: سيتعمق الإحباط وتتآكل الثقة المتبقية في العملية السياسية والمؤسسات القائمة، المحلية والدولية. وسيزداد الشعور باليأس، مما قد يدفع بحراكات شعبية أكثر حدة بحثاً عن بديل جذري.

. على الاقتصاد: سيستمر الانهيار الاقتصادي. ستبقى المؤسسات المالية منقسمة، وسيستمر الإنفاق الموازي والفساد في استنزاف الموارد، مما يؤدي إلى تدهور مستمر في مستويات المعيشة، وتزايد الفقر، واستمرار حالة “إدارة الأزمة” بدلاً من إطلاق التنمية المستدامة.

. على الأمن والاستقرار: ستظل البلاد رهينة لنفوذ الميليشيات المسلحة وغياب سلطة الدولة الموحدة.

فشل المسار السياسي قد يؤدي إلى تجدد المواجهات المسلحة والعودة إلى حالة الصراع الشامل، وربما انقسام البلاد بشكل دائم.

خاتمة: طريق صعب نحو الاستقرار

خارطة الطريق الأممية الجديدة تقدم إطاراً قابلاً للتطبيق، لكنها لا تضمن نجاحه. فالإرادة الحقيقية لإنهاء المراحل الانتقالية ليست متوفرة بعد لدى كافة الفاعلين الرئيسيين.

ومع أنهم يرحبون علناً بـ “الحكومة الجديدة” و”الانتخابات”، فإن شروطهم ومواقفهم العملية تظل تهدف إلى الحفاظ على الوضع الراهن.

إن القضاء على هذه “العوائق” يتطلب ليس فقط خطة أممية محكمة، بل أيضاً ضغوطاً دولية حاسمة وموحدة ضد المعرقلين، ومصالحة وطنية حقيقية بين الليبيين.

فالشعب الليبي، كما أكدت المبعوثة الأممية، مستعد للتغيير، ولكن هل سيمنحه قادته هذه الفرصة؟ هذا هو السؤال الذي سيجيب عليه المستقبل القريب.

سؤال للمشاركة في الرأي:

بالنظر إلى التناقض الواضح بين تصريحات الأطراف الليبية وأفعالها، هل تعتقد أن خطة أممية جديدة يمكن أن تنجح دون تطبيق ضغوط دولية ومساءلة حقيقية؟

شاركنا رأيك!

المزيد من الكاتب

قصة إنجاز أردني بنكهة عربية

عاصفة في نيويورك تطلق العنان لإثارة جنونية ببطولة أمريكا المفتوحة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *