مالي: حكم الجنرالات بلا نهاية.. هل يبتلع "سلام غويتا" الديمقراطية الأفريقية ويُهدد استقرار الجوار؟
باماكو، مالي - الجمعة، 18 يوليو 2025
في ضربة جديدة للوعود الديمقراطية بمنطقة الساحل، شهدت مالي تحولاً دراماتيكياً يُنذر بمستقبل غامض.
فقد وافق “البرلمان الانتقالي” الأسبوع الماضي على مشروع قانون يسمح للقائد العسكري، الجنرال أسيمي غويتا (41 عاماً)، بالبقاء في السلطة لـ”مدة غير محددة” و”بقدر ما يلزم” حتى “يسود السلام في مالي”.
هذا القرار، الذي يُرسخ حكماً عسكرياً لا حدود زمنية له، يُلقي بظلال كثيفة من القلق ليس على مالي وحدها، بل على منطقة غرب إفريقيا بأكملها التي تعاني بالفعل من “عدوى الانقلابات”.
فما الذي يحدث حقًا في مالي؟ وهل يُصبح الجنرال غويتا “نموذجاً” يُحتذى به لزعماء الانقلابات في الساحل، مدشناً عصراً جديداً من الديكتاتوريات العسكرية تحت ستار “تحقيق السلام”؟ وما هو تأثير هذه التطورات الخطيرة على استقرار دول الجوار، وبالأخص ليبيا، التي تشارك حدودًا وتحديات متشابهة؟
من وعود الديمقراطية إلى قبضة حديدية: مسار غويتا المثير للجدل!
وصل الجنرال غويتا إلى سدة الحكم في عام 2020، إثر انقلاب أطاح بالرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا. لم يكتفِ بذلك، فبعد أقل من عام، قاد انقلاباً ثانياً أزاح مدنيين تم تعيينهم تحت ضغط دولي بهدف إعادة مالي إلى الحكم الديمقراطي.
كانت تلك إشارة واضحة على أن غويتا لا ينوي التنازل عن السلطة بسهولة.
بعد تثبيت قبضته، دفع الجنرال بقوات الأمم المتحدة للانسحاب من البلاد، وقطع العلاقات مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، مُتجهاً نحو تعزيز شراكاته مع روسيا.
هذه الخطوات لم تمر مرور الكرام في المنطقة، فسرعان ما حذت كل من بوركينا فاسو والنيجر، اللتان شهدتا انقلابات عسكرية في عامي 2022 و2023 على التوالي، حذو مالي في قطع علاقاتهما مع فرنسا وتقوية أواصر الصداقة مع روسيا.
هذه الدول الثلاث، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، انسحبت لاحقاً من عضوية الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، في خطوة بدت وكأنها هروب من الضغوط الإقليمية لاستعادة الحكم الديمقراطي.
اليوم، يتزعم الجنرال غويتا “تحالف دول الساحل” (AES) الذي يضم هذه الدول، مُشكلًا تكتلاً جديداً يُوصف بأنه محاولة لخلق “نموذج حكم عسكري ممتد”.

الدعاية سلاحهم الأقوى: كيف يُسيطر الجنرالات على العقول؟
كيف يتمكن هؤلاء القادة العسكريون من البقاء في السلطة وتمديد ولاياتهم رغم التنديد الدولي والوعود السابقة بالديمقراطية؟
يكشف الخبير الأمني كابيرو أدامو، المدير التنفيذي لشركة بيكون للأمن والاستخبارات، عن سرّهم: “باستخدامهم الفعال للمعلومات المضللة والدعاية، وخاصةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن هذه المعلومات تُدخلهم إلى قلوب الناس، وخاصةً الشباب، حتى من خارج الدول الثلاث”.
يُشير أدامو إلى أن مالي تُمثل رمزاً للقضايا الاجتماعية والسياسية المعقدة التي تُفاقم انعدام الأمن في منطقة الساحل، بما في ذلك هجمات الجماعات الإسلامية المسلحة، والعنف الطائفي، ومخاوف حقوق الإنسان، والتحديات الاقتصادية.
لكنه يُضيف بنبرة تحذيرية: “الحكومة التي يقودها الجيش في العاصمة المالية باماكو لم تُحقق حتى الآن أياً من أهدافها المعلنة المتعلقة بالأمن الوطني، والإصلاح المؤسسي، والعودة إلى الحكم الديمقراطي.
بدلًا من ذلك، يستخدمون الشعبوية ونفورهم من السيطرة الفرنسية للبقاء في السلطة.”
قمعٌ يزداد، ومستقبلٌ مجهول: تحذيرات من "عدوى الخوف"!
لم يأتِ تمديد ولاية غويتا من فراغ. فمنذ توليه السلطة، لم يتوانَ الجنرال عن قمع أي أصوات معارضة.
ففي إطار حملته المستمرة، حظر المجلس العسكري جميع الأحزاب السياسية في مالي. ومنذ فرض الحظر في مايو، احتجز المجلس اثنين من قادة المعارضة بعد احتجاج نادر مؤيد للديمقراطية.
يُشير بول إيجيمي، محلل الشؤون العالمية، إلى أن “المجلس العسكري يقمع وسائل الإعلام في مالي والدول المجاورة… يمكنكم رؤية القمع الهائل المستمر.
” ورغم أن المجلس العسكري يركب حالياً موجة المشاعر المعادية لفرنسا، إلا أن إيجيمي يُحذر من أن “المعارضة لحكمه تتزايد”.
الأحداث في مالي تُوصف بأنها “تطور مقلق ومقلق” من قبل إلياسو غادو، خبير الشؤون الدولية.
يُحذر غادو من أن “الخوف مُعدٍ وسينتشر إلى جيراننا”، مُلاحظاً أن التطورات السياسية في الدول الثلاث المتأثرة بالانقلابات تبدو “متشابهة” بشكل مخيف.
ويُضيف: “يبدو أنهم يُزعم أنهم المسيح، مدّعين أنهم يريدون استعادة النظام، مستغلين مشاعر الاستياء لدى الشعب ضد حكومتهم الديمقراطية، ووعدوهم بأنهم لن يحققوا ما وعدوا به، لمجرد الوصول إلى السلطة”.
تأثير الدومينو: هل يُشعل الوضع في مالي صراعات جديدة في ليبيا والمنطقة؟
إن ما يحدث في مالي لا يُمكن عزله عن سياقه الإقليمي. فمنطقة الساحل الكبرى، التي تمتد من السنغال غرباً إلى السودان شرقاً، تُعدّ شرياناً حيوياً وممراً حرجاً يربط شمال إفريقيا بجنوبها.
ليبيا، تحديداً، تجد نفسها في مرمى تأثير هذه التطورات بشكل خاص لعدة أسباب:
1 . حدود طويلة ومسامية: ليبيا تُشارك حدوداً واسعة وغير مؤمنة بالكامل مع النيجر وتشاد، وهما دولتان مُتأثرتان بشكل مباشر بالاضطرابات في مالي وعضوتا في تحالف الجنرالات الجديد.
هذا يجعلها عرضة لتدفقات غير منضبطة من الأفراد، بمن فيهم الميليشيات المسلحة، والعناصر الجهادية، وحتى العصابات المنظمة.
2 . عودة النفوذ الروسي: مع توجه دول الساحل، وعلى رأسها مالي، نحو روسيا، يتزايد القلق من تنامي الوجود الروسي بالقرب من الحدود الليبية.

هذا قد يُعيد خلط الأوراق الجيوسياسية في المنطقة ويُعقد المشهد الأمني الليبي المُعقد أصلاً، خاصة مع وجود مجموعات مسلحة روسية تعمل في دول الجوار.
3 . انتشار الإرهاب والتطرف: فشل الحكومات العسكرية في مالي في دحر الجماعات الجهادية قد يؤدي إلى مزيد من انتشار هذه الجماعات وتمددها نحو الشمال، لتجد في الصحراء الليبية ملاذاً أو قاعدة خلفية، مما يُهدد الأمن الليبي الداخلي ويُعيق جهود الاستقرار.
4 . الهجرة غير الشرعية: الاضطرابات المتزايدة وعدم الاستقرار في دول الساحل يدفع بالمزيد من السكان للنزوح، وتُصبح ليبيا نقطة عبور رئيسية للمهاجرين نحو أوروبا.
هذا الضغط الديموغرافي والاقتصادي يزيد من التحديات التي تواجهها ليبيا، ويُمكن أن يُستغل من قبل الشبكات الإجرامية.
5 . تحدي الحكم الديمقراطي: النموذج الذي يُقدمه غويتا في مالي، بتمديد حكمه العسكري وإلغاء الوعود الديمقراطية، يُمكن أن يُشجع فاعلين آخرين في المنطقة على التفكير في مسارات مشابهة، مما يُقوض أي جهود بناء ديمقراطية مستقرة في دول مثل ليبيا التي لا تزال في طور الانتقال.
الخاتمة: هل ينقذ "السلام" المزيف حكم الجنرالات؟ وهل تتحمل ليبيا عبء الساحل؟
إن قرار تمديد ولاية الجنرال غويتا بلا حد زمني في مالي، تحت ذريعة “إحلال السلام”، يُعدّ سابقة خطيرة في المنطقة.
فبينما تتفاقم التحديات الأمنية والاقتصادية، تبدو الحكومات العسكرية في الساحل وكأنها تُفضل القبضة الحديدية على المسار الديمقراطي، مُستغلةً حالة عدم الاستقرار لنزع الشرعية عن أي معارضة.
هل ستُنجح هذه الاستراتيجية الجنرالات في البقاء على سدة الحكم؟ أم أن “الخوف” الذي ينتشر الآن سيتحول إلى شرارة لثورة شعبية تُعيد الديمقراطية إلى الساحل؟ التداعيات الإقليمية لهذه التطورات قد تكون أعمق وأخطر مما يدركه الكثيرون، وتضع ليبيا في عين العاصفة، مُجبرةً إياها على التعامل مع تداعيات أمنية واقتصادية وجيوسياسية قد تُعقد مسارها نحو الاستقرار المنشود.