في رواية بوليسية لا تزال فصولها مفتوحة، تتشابك خيوط التحقيق والاتهامات، وتبقى تساؤلات حارقة بلا إجابات واضحة.
أسدل الستار على حياة الناشط الحقوقي الليبي عبد المنعم المريمي في ظروف غامضة، فهل كان موته انتحاراً يائساً أم جريمة خفية؟

مقالنا هذا يتعمق في الوقائع، يتتبع مسار الأحداث المتضاربة، ويحلل تصريحات الجهات الرسمية، ليرسم صورة محايدة لقصة هزت الشارع الليبي، في محاولة لفك لغز “خيوط الظلام” التي تكتنف وفاة رجل شارك في مظاهرات سلمية، وعانى من تهديدات سابقة، ليجد نهايته المأساوية داخل أروقة العدالة.
الستار يسدل على حياة ناشط.. بدايات الغضب
في صباح يوم السبت الموافق الخامس من يوليو 2025، اهتزت ليبيا على وقع نبأ وفاة الناشط الحقوقي المعروف عبد المنعم رجب المريمي.
لم تكن الوفاة عادية، بل جاءت بعد أيام من اختطافه واحتجازه لدى جهات أمنية ليبية، لتفجر موجة من الغضب العارم، تجلت في أعمال شغب وقطع للطرقات وإشعال للإطارات من قبل محتجين غاضبين في طرابلس والزاوية.
هذا التفاعل العنيف من الشارع كان بمثابة إعلان صريح لعدم قبول الروايات الرسمية الأولية التي لفّت القضية.
عبد المنعم المريمي، الذي عُرف بمشاركته في المظاهرات السلمية التي طالبت برحيل حكومة الوحدة الوطنية خلال الأسابيع الماضية، لم يكن غريباً على الأضواء.
مشاركة المرحوم عبدالمنعم المريمي في أحدى المظاهرات السلمية في مدينة طرابلس
هو الشقيق الأكبر لأبو عجيلة المريمي، المحتجز حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية في قضية لوكربي، وهي معلومة تضيف بعداً آخر للقصة.
وقبل أيام من اختطافه، كان المريمي قد نشر تسجيلاً صوتياً لمكالمة بينه وبين مسلحين تضمنت تهديداً صريحاً بالقتل، وهو ما يضع علامات استفهام كبيرة حول الدوافع الكامنة وراء استهدافه.
كما كان المريمي ذو بصمة ثقافية في المجتمع الليبي، حيث تُنسب إليه فكرة وسيناريو وحوار الرسوم الرمضانية الشهيرة “الحاج حمد“.
شريط الأحداث المأساوي.. روايات متضاربة
اللحظات التي سبقت وفاة المريمي تكتنفها روايات متضاربة من الجهات الرسمية، في حين تضيف المصادر الأخرى تفاصيل تزيد من تعقيد المشهد:
. 30يونيو 2025 (الاثنين): الاختطاف والاحتجاز الغامض أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أن المريمي اختُطف من قبل جهاز الأمن الداخلي في صرمان. بينما ذكرت مصادر ليبية أن جهاز الأمن الداخلي في طرابلس تسلم المريمي بعد اختطافه، مشيرة إلى تعرضه للتعذيب على يد “مجهولين” في مدينة صرمان قبل إعلان وفاته.
هذه النقطة تثير تساؤلات جوهرية حول الجهة المسؤولة عن الاختطاف الأولي وحقيقة تعرضه للتعذيب خلال الأيام الثلاثة التي قضاها في الاحتجاز قبل تسليمه للنيابة.
مناشدة من السيد نورالدين رجب المرمي أخ المخطوف عبدالمنعم المريمي وأهله
. 3 يوليو 2025 (الخميس): التسليم والقفزة الغامضة في هذا اليوم المحوري، تصدر روايتان رئيسيتان:
.. رواية جهاز الأمن الداخلي:
أصدر الجهاز بياناً بتاريخ 6 يوليو 2025، يؤكد فيه أنه اقتاد المريمي “استناداً إلى تحريات جدية وشاملة وشبهات مستمدة من وقائع مادية مجرمة” تم حصرها في محضر رسمي افتتح نهاية مايو 2025، لكنه لا يسمح بنشر تفاصيلها.

ويشير البيان إلى إخطار مكتب النائب العام بالواقعة والقبض على المريمي وفق المادة (26) من قانون الإجراءات الجنائية، ووضع في حجرة التوقيف “معاملة كريمة”. يؤكد الجهاز أنه أحال المريمي إلى مكتب النائب العام صباح 3 يوليو 2025 الساعة 8 صباحاً “تحت حراسة مشددة”، وتم تسليم محضر الاستدلال.
ويلفت البيان إلى أن وكيل النيابة لم يطلب إحضار الموقوف إلا عند الساعة 15:30 من نفس اليوم، وأن المريمي كان “بحالة نفسية وصحية ممتازة” عند تسليمه لوحدة الضبط بمكتب النائب العام. ينفي الجهاز “نفياً قاطعاً” تعرض المريمي للتعذيب جسدياً أو نفسياً أو لفظياً، ويؤكد أن مسؤوليته القانونية انتهت بمجرد تسليمه لمكتب النائب العام، وأن ما حدث داخل أروقة النائب العام لا علاقة للجهاز به.
.. رواية مكتب النائب العام:
أصدر المكتب بياناً، قال فيه إن النيابة العامة تسلمت أوراق الاستدلال في مواجهة المريمي من جهاز الأمن الداخلي في 3 يوليو 2025.
وذكر البيان أنه “جرى استجواب السيد المريمي في مقر النيابة وأنكر الواقعة المنسوبة إليه، ثم أُفرج عنه”.
فيديو تم بث من قبل النيابة العامة حول واقع المرحوم عبدالمنعم المريمي
الكلمة المفتاحية هنا هي “أُفرج عنه“. ويضيف البيان: “بعد الإفراج، قفز من الطابق العلوي إلى الأرضي داخل مقر النيابة مما تسبب له بإصابات خطيرة.
” وقد نشر مكتب النائب العام مقاطع فيديو توثق لحظة قفز المريمي داخل مقره.
.. رواية المحامي (قبل الوفاة):
أكد محامي المريمي، الأستاذ حمد الفروجي، قبل الوفاة بيومين، صحة رواية الإفراج. ففي تصريح له، نفى الشائعات حول تعرض موكله للاعتداء، موضحاً أنه “تم إخلاء سبيله من قبل مكتب النائب العام وأثناء مغادرته لمقر المكتب وإلقاء التحية على عناصر الأمن قام بالقفز من بئر السلم من الدور الثالث للمبنى”.
تصريح محامي المرحوم عبدالمنعم المريمي قبل وقوع حالة الوفاة وبعد إطلاعه على لقطات فيديو في النيابة العامة
وذكر أنه “اطلع على كافة التسجيلات بالخصوص”، مؤكداً أن الحادث كان نتيجة “تصرف مفاجئ من المريمي نفسه
. بعد القفزة: الإصابات والوفاة نُقل المريمي إثر القفزة إلى مستشفى مصحة الخليل، حيث أُجريت له عملية عاجلة لوقف النزيف.
التقرير الطبي الرسمي من المصحة، والذي تم الكشف عنه، كشف عن إصابات حرجة ومروعة: نزيف دماغي بسمك 2.4 سم، كسر في عظام جدار الجمجمة، نزيف من الأذن والأنف، غيبوبة تامة ومعدل وعي 3 من 15، تفاوت في حجم حدقتي العين وانعدام الاستجابة العصبية، كسور متعددة في الفقرات العنقية والصدرية، ووجود استرواح صدري.
صلاة الجنازة على المرحوم عبدالمنعم المريمي في ميدان الشهداء بالزاوية
حذر الفريق الطبي من “احتمال وفاة مرتفع”. وفي مساء 4 يوليو 2025، أُعلن عن وفاة عبد المنعم المريمي متأثراً بإصابته.
خيوط الظلام.. تساؤلات حارقة بلا إجابات
تتقاطع الروايات الرسمية مع الحقائق الميدانية والتفاصيل المتناثرة لتترك سلسلة من التساؤلات الملحة التي تحيط بوفاة المريمي:
. اختطاف أم اعتقال قانوني؟ البيان الأممي يصف ما حدث في 30 يونيو بـ”الاختطاف من قبل جهاز الأمن الداخلي في صرمان”.
بينما يتحدث جهاز الأمن الداخلي عن “اقتياد” بناءً على “تحريات جدية وشاملة” و”وقائع مجرمة”.
إذا كانت الوقائع معروفة، فلماذا لم يتم الإعلان عنها بشكل شفاف؟ وما هي حقيقة مزاعم التعذيب التي تحدثت عنها مصادر ليبية والبعثة الأممية قبل تسليمه للنيابة؟
. الحالة النفسية والجسدية للمريمي: أي حقيقة؟ جهاز الأمن الداخلي يؤكد تسليمه للنيابة وهو “بحالة نفسية وصحية ممتازة”.
لكن بعد ساعات قليلة، قام المريمي بالقفز بطريقة أدت إلى وفاته. وماذا عن شهادة المتخصص النفسي الجامعي محمد علي المبروك الذي نشر صورة المريمي في مكتب النائب العام، مشيراً إلى “شحوب في وجهه وهو شحوب صدمة تعرض لها سابقاً وليس شحوب تعب أو إنهاك من شرود عينيه”؟ هل يمكن لشخص في “حالة نفسية وصحية ممتازة” أن يقدم على هكذا فعل فوراً بعد “الإفراج”؟

. لماذا القفز بعد الإفراج؟ انتحار أم يأس؟ إذا كان قد أُفرج عنه فعلاً، كما ذكر النائب العام ومحاميه، فلماذا لم ينتظر المريمي ذويه الذين كان من المفترض أن يحضروا لاصطحابه؟وما الذي دفعه للقفز من الطابق الثالث في مبنى رسمي؟
هل كان ضغط الاحتجاز والتحقيق – خاصة بعد مشاركته في المظاهرات السلمية – قد بلغ به حداً لا يطاق؟ وماذا عن أولاده الذين تُركوا في سيارة وحيدين في الشارع في صرمان؟
هل كانت مشاعره تجاههم، أو شعوره باليأس من وضعه، قد دفعته لهذا التصرف؟ هذه النقطة هي جوهر اللغز بين الانتحار الناتج عن يأس شديد أو فعل ناتج عن ضغوط نفسية قصوى.

. من يتحمل المسؤولية؟ تضارب الاختصاصات جهاز الأمن الداخلي ينفي مسؤوليته بعد تسليمه للنيابة العامة، مؤكداً أن “مسؤوليته القانونية تنتهي بمجرد استلام الموقوف”.
بينما النيابة العامة تقول إنها تسلمت أوراقه وأفرجت عنه. هذا التضارب في تحديد المسؤولية النهائية في اللحظات الحاسمة التي سبقت القفزة يترك فراغاً كبيراً في المساءلة.

. أصابع الاتهام: إلى أين تتجه؟ مع هذه الملابسات والاتهامات المتبادلة بين الجهات الرسمية، وتأكيد الأمم المتحدة على “الاحتجاز التعسفي” و”مزاعم التعذيب”، فإن أصابع الاتهام تتجه نحو كل من شارك في عملية احتجاز المريمي وتحقيقه.
هل كانت دوافع الاعتقال سياسية بحتة بسبب مشاركته في المظاهرات؟ أم أن هناك “وقائع مادية مجرمة” حقيقية لم يتم الكشف عنها؟

صوت المجتمع والمطالبة بالشفافية
دفعت هذه الظروف الغامضة البعثة الأممية للدعم في ليبيا إلى التعبير عن “صدمتها وحزنها العميقين”، وحثت السلطات الليبية على “فتح تحقيق شفاف ومستقل في احتجازه التعسفي، وفي مزاعم تعرضه للتعذيب أثناء احتجازه، وكافة الظروف المحيطة بوفاته.
فيديو ثم بث من أحد المتظاهرين في مدينة الزاوية بعد واقعة المحوم عبدالمنعم المريمي
“ كما أدانت البعثة التهديدات والمضايقات والاعتقالات التعسفية التي تستهدف الناشطين سياسياً، وجددت دعوتها للسلطات إلى احترام حرية التعبير ووضع حد للاعتقالات غير القانونية.
المجتمع الليبي بدوره، من أهالي المريمي الذين أدوا صلاة الجنازة عليه في ميدان الشهداء بالزاوية، إلى المحتجين الذين قطعوا الطرقات، يطالبون بتحقيق نزيه وشفاف حول أسباب اعتقاله، وظروف احتجازه، وملابسات وفاته.

البحث عن الحقيقة في متاهة الظلام
إن وفاة عبد المنعم المريمي ليست مجرد حادثة فردية، بل هي مرآة تعكس واقعاً معقداً من غياب الشفافية، وتضارب الروايات الرسمية، والتحديات التي تواجه الناشطين في ليبيا.
اللغز المحيط بوفاته، بين كونه انتحاراً أم جريمة، سيبقى معلقًاً ما لم تكن هناك إرادة حقيقية لإجراء تحقيق مستقل وشفاف، يكشف كل خيوط الظلام، ويقدم إجابات شافية لكل التساؤلات.

إن تحقيق العدالة في قضية المريمي، بمعزل عن التجاذبات السياسية، هو مفتاح أساسي لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، ولإثبات أن ليبيا تسير نحو دولة القانون التي تصون حقوق الإنسان وتضمن المساءلة، مهما كانت الأسباب والدوافع.
حتى ذلك الحين، ستبقى قصة عبد المنعم المريمي قصة درامية مؤلمة تذكرنا بالثمن الباهظ الذي يدفعه البعض في سبيل إحداث التغيير.