الولايات المتحدة وإيران، 27 يونيو 2025
في قلب عاصفة جيوسياسية لا تهدأ، حيث يتنافس الخصوم على حلبة المنطقة المشتعلة، برزت قصةٌ تجاوزت ساحات المعارك لتختر جدران القصور الرئاسية، وتُلقي بظلالها على حرية الكلمة ومصير القادة.
إنها حكايةٌ بدأت بضربةٍ عسكرية، وتفاقمت بغيابٍ غامض، وانتهت بـ “نصرٍ” مُعلن وسط تسرباتٍ كشفت شروخاً عميقة في عاصمة القرار العالمي.
إيران تشتعل: ضربة نووية وغياب الزعيم
بعد أيامٍ من أحداثٍ غامضة هزت المواقع النووية الإيرانية، ليتبادل فيها طرفا النزاع الاتهامات و”حقائق” متضاربة، خرج صوت الزعيم الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، في فيديو مسجل بُث على التلفزيون الإيراني بلهجةٍ واثقة: “سحق الصهاينة، انتصرنا”.

كلماتٌ حملت في طياتها إعلاناً “بالنصر” و”صفعة” على وجه الولايات المتحدة.
لكن خلف هذه الكلمات القوية، كانت الحقيقة على الأرض أكثر تعقيداً وإبهاماً.
فبينما أعلنت طهران عن “أضرار جسيمة” لحقت بمواقعها النووية، قللت شبكة CNN الأمريكية من حجم الضرر، مشيرةً إلى أن البرنامج “تأخر لبضعة أشهر فقط”. الأكثر إثارة للقلق كان تأكيد وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) أن “المحطات سيتم استردادها”، بينما أصر البنتاغون على أن “أجهزة الطرد المركزي النووية الإيرانية سليمة تقريباً”.
هذا التضارب لم يزد المشهد إلا غموضاً، ودفع إلى التساؤل عن حقيقة الأضرار وتأثيرها الفعلي على قدرات إيران النووية.
في خضم هذا الغموض، فاجأت طهران العالم بخطوة تصعيدية أخرى: تأكيد مجلس صيانة الدستور على وقف العلاقات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA).
قرارٌ جاء بعد مطالبات الحرس الثوري، ليقطع آخر خيوط الشفافية، ويزيد المخاوف من طبيعة البرنامج النووي الإيراني.
تاريخياً، لم يكن الوضع بهذا التوتر. فالمفاعل النووي الإيراني الأول كان “هدية” من الرئيس الأمريكي دوايت دي أيزنهاور في إطار برنامج “الذرة من أجل السلام” خلال خمسينات القرن الماضي.
تحولٌ دراماتيكي يعكس مساراً مليئاً بالشك والتوتر بلغ ذروته اليوم.
الشعب يتساءل: أين المرشد؟
وسط هذا المشهد المتوتر، اختفى آية الله علي خامنئي عن الأنظار.
أسبوعٌ كامل مرّ دون أن يُرى أو يُسمع له صوت. غيابٌ مفاجئ أثار قلق الجميع، من النخبة السياسية إلى عامة الشعب في إيران.

الملصقات التي تحمل صور خامنئي في المظاهرات المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل في طهران كانت لا تزال حاضرة، لكن غيابه الجسدي كان يتردد صداه في كل بيت.
تساءل المضيف على تلفزيون الدولة الإيرانية يوم الثلاثاء، 25 يونيو 2025، السؤال الذي كان على ألسنة الجميع: “الناس قلقون للغاية بشأن الزعيم الأعلى.
هل يمكن أن تخبرنا كيف هو؟” وأشار إلى سيل من الرسائل من المشاهدين تحمل نفس السؤال. لكن الإجابة جاءت مهذبة لكنها متهربة؛ فمهدي فازلي، رئيس مكتب أرشيف السيد خامنئي، لم يقدم إجابة مباشرة.
اكتفى بالقول إنه يتلقى نفس الرسائل وأنها “منطقية جداً نتيجة الضربة الأمريكية وآثارها”.
إجابة زادت الغموض، وأشعلت المزيد من التساؤلات بين الإيرانيين: أين خامنئي؟
التحليلات توالت. صحيفة نيويورك تايمز تساءلت: “أين خامنئي؟” وربطت غيابه باغتيال أبرز قادته المقربين، مما أثار تكهنات بأنه ربما يكون قد أُصيب بالفعل خلال الأحداث الغامضة.
عودة “النصر” وشرخ في واشنطن: ترامب يُلاحق ناتاشا
ومع عودة خامنئي ليظهر في خطاب سماه “خطاب النصر”، قائلاً إن المنشآت النووية لم تتضرر وأن الضربة كانت ضعيفة، تزامنت هذه العودة مع عاصفةٍ أخرى كانت تهبّ على الجانب الآخر من العالم: في واشنطن.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بأسلوبه الذي لا يهدأ، سخر من وكالات الاستخبارات والإعلام، مؤكداً أن الضربة العسكرية الأمريكية على إيران “نجحت” وأن المنشآت النووية “قد دُمرت ومُحيت بالكامل”، وأن إيران “لن تستطيع أن تصنع قنبلة نووية جديدة”.
وفي هجومٍ لاذع على وسائل الإعلام، وجه ترامب انتقادات شديدة لشبكات مثل CNN وMSNBC، متهماً إياها بنشر “أخبار مزيفة” و”إيذاء طيارين عظماء وضعوا حياتهم على أكفهم”.
لكن ما أثار الصدمة الأكبر كان تركيز ترامب الشخصي والمثير للجدل على الصحفية ناتاشا برتراند من CNN.

في تغريدةٍ غير مسبوقة، صب ترامب جام غضبه عليها: “أنني لي 3 أيام وأنا أراقب الصحفية ناتاشا.
3 أيام تكتب أخبار مزورة… يجب أن تُطرد ويجب على شبكة سي إن إن تطردها طرد الكلاب ‘أطردوا ناتاشا’.”
تصوّروا وقع هذه الكلمات على نفسية صحفية شابة. أن يتم تهديدها بالطرد “مثل الكلاب” من رئيس بلدها، وأن تُتهم بالكذب وتشويه سمعة طيارين. لقد أصبحت ناتاشا في مرمى هجومٍ شرس من قبل إعلاميين ومسؤولين مقربين من ترامب، الذين انضموا لدعوته لطردها. كارولين ليفيت، على سبيل المثال، هاجمت “تاريخ ناتاشا برتراند في نشر الأخبار الكاذبة”، مستخدمةً قصة حاسوب هانتر بايدن كدليل.
ردت CNN بقوة، مؤكدةً أن ما نشرته ناتاشا كان “وفقاً لتقرير رسمي صادر عن الاستخبارات الدفاعية المركزية الأمريكية”.
وهنا كُشفت المفاجأة الأكبر: التحقيق داخل إدارة ترامب أشار إلى أن تسريب التقرير لم يأتِ من البيت الأبيض، بل من الكونغرس، وتحديداً من أحد النواب في لجنة الأمن القومي والدفاع.
هذا التسريب كشف عن شرخٍ عميق داخل المؤسسات الأمريكية، وأشار إلى أن التقرير كان حقيقياً بالفعل. هذا التصرف يفسر سعي ترامب المستقبلي لتقليل المعلومات الاستخباراتية المتداولة مع الكونغرس لمنع تكرار التسريبات.
من المستفيد؟
إن هذا الواقع المعقد يوضح وجود أزمة كبيرة في أمريكا، حيث تتداخل السياسة مع الإعلام، وتتصادم الروايات الرسمية مع الحقائق المُسربة.
لكن من هو المستفيد الأكبر من هذه الأزمة؟
في هذه اللعبة الخطيرة، نجد أن أقرب المستفيدين هو آية الله علي خامنئي. فبينما كان ترامب مشغولاً بملاحقة الصحفية ناتاشا برتراند وتشغيل المخابرات الأمريكية للرد على الإعلام، كان خامنئي يخطو إلى الواجهة، مُعلناً نصراً خاصاً به.
فقد ادعى أن منشآت إيران النووية لم تتضرر وأن الضربة كانت ضعيفة، متجاهلاً التقارير الاستخباراتية التي تؤكد “أضراراً جسيمة” وأن إعادة بناء البرنامج قد يستغرق سنوات.
ويبقى التساؤل قائماً حول دقة التقارير الاستخباراتية التي تتحدث عن تقييم سريع للأضرار، بينما الحقائق العلمية تشير إلى أن تقييم الضرر لمنشآت تحت الأرض يتطلب أياماً أو أسابيع، وليس ساعات. كما أن الأقمار الاصطناعية لا يمكنها تحديد حجم الضرر الكلي لمنشآت محصنة تحت الأرض.
في النهاية، تتكشف صورة معقدة حيث يسعى كلا الجانبين – طهران وواشنطن – لإعلان “النصر” رغم تناقض الوقائع. هذه اللعبة الإعلامية والسياسية، حيث تستفيد إيران من “ضجيج” الإعلام الأمريكي وانشغال ترامب بالصراعات الداخلية، تُلقي بظلالها على مصير المنطقة، وتؤكد أن الكلمة قد تكون أشد فتكاً من أي سلاح.