عيدٌ تحول إلى صدمة.. فوضى ليبيا تبتلع صبراتة

بشكل مفاجئ ومفزع، تبدّلت تراتيل عيد الأضحى الهادئة في صبراتة إلى دوي مرعب أيقظ المدينة على وقع الرصاص والانفجارات.

كان صباح السادس من يونيو الجاري، ومع تباشير العيد وفرحته المنتظرة، انقلبت أجواء هذه المدينة الساحلية الوادعة إلى ساحة حرب حقيقية.

لم تكن هذه مجرد اشتباكات عابرة، بل كانت صدمة عميقة كشفت عن وجه آخر لليبيا، بلداً غارقاً في مستنقع الفوضى، حيث أصبح الأمن كلمة بلا معنى، وحيث لا تزال الدولة، بأجهزتها الأمنية المتعددة،غائبة تماماً عن مشهد يتسم بجرائم غامضة واعترافات خطيرة تثير هلع الناس.

هذه القصة الدرامية الواقعية، التي أفزعت أهالي صبراتة وأفسدت فرحتهم، هي شهادة على غياب السيطرة وتوهان الأمم المتحدة أمام واقع مرير يهدد حياة المدنيين.

صرخة الفجر: تكبيرات العيد تتحول إلى دوي رصاص

على بعد 58 كيلومتراً، أي ما يقارب 56 دقيقة بالسيارة، تفصل صبراتة عن مبنى الأمم المتحدة في جنزور. الأمم المتحدة، التي ما زالت بعد أكثر من 14 عاماً، تسبح في فضاء ليبيا عاجزة عن حل الانفلات الأمني الذي أصبح خطراً داهماً على المدنيين وعلى استقرار الدولة.

ومع شروق شمس صباح عيد الأضحى، وبينما كانت تكبيرات “الله أكبر، الله أكبر” تتعالى من المساجد في المدينة الهادئة، كان المصلون يستعدون لصلاة العيد في الأشهر الحرام.

فجأة، توقف صوت التكبير في المساجد، وسط سكون مخيف وفزع. علامات استفهام ارتسمت على وجوه الناس في المساجد، وهم يستمعون لانفجارات وأصوات رصاص كثيف تقترب رويداً رويداً من المسجد.

سُمعت أصوات سيارات مسلحة تطلق النار، وفجأة توقفت مدرعة مسلحة أمام المسجد. نزل منها أفراد يحملون قواذف آر بي جي المضادة للدبابات، ووجهوا قذائفهم إلى أول الشارع. وصلت سيارات أخرى تطلق مضادات للطيران، وتوافدت عربات وأسلحة ثقيلة، لتصبح المدينة ساحة قتال.

هرع جميع المصلين للخروج بسرعة من المساجد إلى منازلهم خوفاً وفزعاً.

هناك من أصيب، وهناك من سقط من الخوف.

أطفال وشباب ومسنون يركضون في الشارع، والرصاص العشوائي الكثيف يملأ كل أرجاء مدينة صبراتة، وبشكل خاص في منطقتي الدبابشة والخطاطبة.

العيد يتحول إلى رعب: شواطئ ذهبية ملطخة بالدم

حلّ الخوف في كل أرجاء المدينة، وتحول العيد إلى رعب.

المعلومات التي لم تُؤكد رسمياً بعد تشير إلى وقوع ضحايا مدنيين.

المعركة بين المجموعات المسلحة، حسب روايات المدنيين في المدينة، كانت شرارتها الأولى على الشواطئ الذهبية الهادئة لصبراتة.

هاجمت أرتال مسلحة مدججة بكافة الأسلحة الثقيلة من مدينة الزاوية على مصيف “ليبرتون”، الذي يقول عدد من النشطاء إنه يتبع لأحد قادة المجموعة المسلحة في صبراتة، أحمد العمو.

ثم تم تخريب المصيف وحرقه على يد أبناء عمومة القتيل محمد الخضراوي، الملقب بـ”سي سي“.

العمو يهدد ويكشف: فضائح قد توقف الجحيم؟

خرج “أحمد الدباشي”، الملقب بـ”العمو”، في فيديو قصير يظهر فيه عارياً من الجزء العلوي، وهو يقسم باسم الله: “ولو تبقى معي عشرة رجالة”.

أصبح يهدد بقوله: “راهو مقاطع الفيديوهات لصبراتة بالكامل في كافة مناطقها بما فيها منطقة المرسي والأورام والمقاهي والأسلحة التي يمتلكونها وما هي للأشخاص الذين أنتم متحاملين بسببهم الآن، لدي مقاطع فيديوهات تثبت تجاوزاتهم منذ أكثر من شهرين، ولقد قمت بتوثيقها بالكامل، وثّقت أعمالهم وسرقاتهم وتجاوزاتهم وأعمالهم في الهجرة غير الشرعية، ومن يشتغل من مجموعات وأشخاص في منطقة المرسي حول الهجرة غير الشرعية والأسلحة وعن كافة أعمالهم بالكامل”.

كان كلامه موجهاً بوضوح لمن يشتغل أو يمتهن هذه المهن من المجموعات وقوادها في صبراتة وتحديدًا في المرسي.

زاد من حدة تهديده: “سأقوم بتنزيلها، أي الفيديوهات، مباشرة الآن على مواقع التواصل الاجتماعي لأفضحهم وأفضح أعمال الأشخاص وما يرتكبونه من فضائع، سأنشر الحقائق كاملة”.

وقد اعتبر نفسه رسولاً منزلاً من السماء، في إشارة إلى فظاعة ما يفعله أولئك المجرمون وما قد تفضحه هذه الفيديوهات من فضائع. “سوف أقوم بنشر كل شيء، سوف اشتبك معهم الآن، وفيما بعد أقوم بنشرها ولن أرد لأحد مهما كان مستواه وقدره ومدى قوة نفوذه ومسؤوليته”.

لماذا قام بنشر هذا الفيديو في لحظة الاشتباكات وهو يظهر متأثرًا، وحتى لم يرتدِ ملابسه حيث يظهر الفيديو جسده العلوي فقط وهو بدون ملابس وعارٍ تمامًا؟ يبدو أنه يوجه رسالة مبطنة للمسلحين الهاجمين على المدينة لإخافتهم ودفعهم للتوقف عن الرماية والهجوم العنيف. ربما قد يخافون من الفضائح، ولو توقف الهجوم فهذا يعني أنهم أيضاً متورطون وأن الفيديوهات لو نُشرت قد تفضحهم.

الجدير بالذكر أنه بعد نشر هذا الفيديو، توقف الهجوم مباشرة، مما يعني أن العمو نجح في إيقاف الهجوم المسلح المفاجئ.

لكنه لم ينشر الفيديو حسب تهديده.

اعترافات صادمة: ما هي الجرائم الخفية؟

ما اعترف به العمو كان مفزعاً وخطيراً.

فما هي الجرائم الخطيرة والأعمال التي تمارسها تلك المجموعات في صبراتة على شواطئها الذهبية الهادئة، ويخافون من نشرها؟

لقد اعتبر العمو نفسه رسولًا بالمقارنة معهم، في إشارة إلى ما يقومون به من فضائع.

هل لهذا السبب قد توقف الهجوم المباغت الذي لم يراعِ أفراح عيد الأضحى ولا الأشهر الحرام؟

الغموض يحوم حول ما يملكه العمو من دلائل خطيرة توثق جرائم على تلك الشواطئ الجميلة في منطقة المرسي بصبراتة.

أيضاً، لماذا هاجم مسلحون من منطقة الزاوية مصيف “ليبرتون” الذي يمتلكه العمو حسب ما يتداوله عدد من النشطاء؟ ومن قام بإخراج أفواج كبيرة من المحتجزين في مراكز الهجرة غير الشرعية والغير معلوم من تتبع هذه المراكز وماذا يحصل فيها؟

صبراتة ومراسيها: قلبٌ ينبض بالصيد وتاريخٌ غارق في الفوضى

تقع مدينة صبراتة أقصى غرب “المدن الثلاث” القديمة لطرابلس الرومانية، إلى جانب أويا ولبدة الكبرى.

تبعد المدينة حوالي 70 كيلومترًا (43 ميلاً) غرب طرابلس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهي معروفة بمواقعها الأثرية الخالدة.

ولكن بعيداً عن الآثار، تكمن حقيقة أخرى للمدينة، تظهر جلية في مراسيها البحرية التي أشار إليها “العمو” في تهديده.

فـ “المرسي والأورام اللتان ذكرهما “العمو” ليست سوى إشارة لمجموعة من مراسي الصيد المنتشرة على ساحل صبراتة. هذه المنطقة، التي تعرف باسم مرفأ صبراتة للصيد البحري، وتدار من قبل مكتب صبراتة للثروة البحرية، تضم عدة مراسٍ حيوية:

. المرسى الرئيسي “مرسى زواغة: الذي يستخدم الآن كمرفأ للصيادين، ويقع غرب المدينة الأثرية.

. مرسى الوادي: أكبر مراسي صبراتة وأقدمها، ويقع شرق المدينة الأثرية.

. مرسى الأورام: الذي يقع قبالة مستشفى صبراتة والمعهد القومي لعلاج الأورام.

. مرسى أبوبكر “الفنار.

. إضافة إلى عدد من “الجابيات” الصغيرة، منها ما يسمى بـ “جابية النخلة”.

تاريخياً، شهدت هذه المراسي أحداثاً مهمة، فـ مرسى الكابوط التاريخي أمام المدينة الأثرية نزل به قوات جستنيان البيزنطية لتأديب المتمردين البرابرة، وقد تم تخريبه إثر الفتح الإسلامي لقطع خط الرجعة على فلول الصليبيين. واليوم، يبدو أن هذه المراسي، التي كانت رمزاً للحياة والصيد والتاريخ، قد تحولت إلى نقاط ساخنة لأنشطة مشبوهة، خاصة الهجرة غير الشرعية، مما يثير تساؤلات حول طبيعة الجرائم التي وثقها العمو في فيديوهاته.

صدمة العيد: أين الدولة والأمم المتحدة؟

ما هذا الحدث الجلل الذي ظهر على الليبيين وأهالي صبراتة في أول أيام عيد الأضحى؟

كيف تنظر الأمم المتحدة، التي لا تبعد عن موقع الاشتباكات سوى مسافة 56 دقيقة، وعلى بعد يومين من صدور بيان صادم من طرابلس؟

ففي الرابع من يونيو 2025، هزّ تصريح المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك، أرجاء المشهد الليبي والدولي.

فقد عبّر عن “صدمته” إزاء الكشف عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في مرافق احتجاز رسمية وغير رسمية تديرها قوة جهاز دعم الاستقرار في طرابلس.

هذا النداء ليس مجرد استنكار، بل هو جرس إنذار دولي يكشف عن واقع مؤلم ويضع مسؤولية ثقيلة على عاتق السلطات الليبية والمجتمع الدولي.

الرعب والفزع والخوف والانتهاكات والأسلحة المنفلتة.

وثّق عدد من النشطاء فيديو لهروب عدد كبير من مقرات الهجرة غير الشرعية بصبراتة، وغير معلوم من تتبع هذه المقرات.

تحليل عميق: هل أوقف التهديد الهجوم حقاً؟

توقيت ظهور فيديو “العمو” وتهديده بنشر الفضائح، ثم التوقف المفاجئ للهجوم المسلح، يثير تساؤلات جوهرية. هل كان هذا التهديد هو القشة التي قصمت ظهر البعير وأوقفت الاشتباكات فعلاً؟

قراءة في الفيديو والاعترافات:

. العمو كـ “رسول: إشارة “العمو” إلى نفسه كـ “رسول منزل من السماء” توحي بمدى فظاعة الجرائم التي يعرفها، وربما رغبته في إظهار نفسه بمظهر المصلح أو الفاضح لفساد أكبر.

. عري الجسد العلوي: ظهوره بهذا الشكل، وخلال الاشتباكات، يعكس حالة من التوتر الشديد واليأس، وربما كان محاولة لإيصال رسالة عاجلة وصادمة بأن لديه ما يكفي من المعلومات لقلب الطاولة على الجميع.

. الجرائم الموثقة: حديثه عن توثيق “أعمالهم وسرقاتهم وتجاوزاتهم وأعمالهم في الهجرة غير الشرعية” يؤكد وجود شبكة واسعة من الأنشطة غير القانونية المرتبطة بهذه المجموعات، والتي على ما يبدو لها علاقة قوية بمراسي الصيد في صبراتة.

الخفايا التي أوقفت الاشتباكات:

إن توقف الهجوم فور تهديد “العمو” بنشر الفيديوهات يشير بقوة إلى أن ما يملكه من معلومات يمثل تهديداً وجودياً للمجموعات المهاجمة أو للأشخاص الذين يقفون خلفها.

هذه الفيديوهات ليست مجرد إثباتات لجرائم عادية، بل ربما تكشف عن:

. تورط شخصيات نافذة: قد تكون هذه الفيديوهات تورط شخصيات ذات نفوذ سياسي أو عسكري في هذه الجرائم، مما يجعل كشفها خطراً عليهم.

. شبكات إجرامية دولية: قد تمتد هذه الجرائم لتشمل شبكات دولية للهجرة غير الشرعية أو تجارة الأسلحة، مما يعرض المتورطين لملاحقات دولية.

. فضيحة مجتمعية كبيرة: ربما تكشف الفيديوهات عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو فضائح أخلاقية قد تؤثر على سمعة العائلات أو القبائل المتورطة.

يبدو أن “العمو” استغل نقطة الضعف هذه لخصومه.

لم يكن تهديده مجرد كلام، بل كان يمتلك أدلة قوية كافية لإحداث “صدمة” أكبر من أي هجوم مسلح.

لقد نجح في استغلال الخوف من الفضيحة لفرض هدنة، حتى لو لم تنشر الفيديوهات بعد. وهذا يضع الكرة في ملعب السلطات الليبية والمجتمع الدولي.

ردود الفعل المتوقعة بعد العيد: انفجار الشارع وصمت الأمم المتحدة

من الشارع الليبي:

من المتوقع أن يشهد الشارع الليبي، وخاصة في صبراتة، موجة من الغضب والاستنكار لما حدث.

طرد سيارات المرور والشرطة من المدينة من قبل الشباب الغاضبين يمثل مؤشراً واضحاً على حالة الإحباط وانعدام الثقة في الأجهزة الأمنية الرسمية.

بعد انكشاف هذه الفضائح والاعترافات، قد تزداد المطالبات بمحاسبة المتورطين، وربما نشهد احتجاجات واسعة تطالب الدولة بالتحرك الجاد لاستعادة الأمن والسيطرة على هذه المجموعات.

غياب الدولة أدى إلى استشراء الجريمة، والشارع لن يسكت طويلًا.

من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي:

صمت الأمم المتحدة المدهش، على الرغم من قرب المسافة بين مبناها ومسرح الجرائم، يثير تساؤلات حول فاعلية وجودها في ليبيا.

تصريح فولكر تورك، وإن كان صادماً، إلا أنه لم يتبعه تحرك ملموس لوقف الانتهاكات في صبراتة.

من المتوقع أن تواجه الأمم المتحدة ضغوطًا متزايدة من منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني للتحرك بشكل أكثر جدية.

هذا الحادث في صبراتة، إلى جانب تقارير تورك، يضع الأمم المتحدة أمام مسؤولية أخلاقية وسياسية لم يعد بالإمكان تجاهلها.

هل ستظل الأمم المتحدة تسبح في فضاء ليبيا “عاجزة”، أم أن هذا الحدث سيشكل نقطة تحول تدفعها لتبني استراتيجيات أكثر فاعلية لمواجهة الانفلات الأمني وانتهاكات حقوق الإنسان؟

شاركونا بآرائكم وتوقعاتكم في التعليقات: هل تعتقدون أن ما حدث في صبراتة سيكون نقطة تحول في الوضع الأمني الليبي، أم أنه سيبقى مجرد صدمة أخرى تضاف إلى سجل الفوضى؟

المزيد من الكاتب

رولان غاروس 2025: عاصفة باريسية تُسقط ملكة التراب وتُشعل سباق اللقب!

لوس أنجلوس على حافة الهاوية: ترامب يشعل النيران، وكاليفورنيا تقاوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *