في افتتاحيتنا اليوم، نضع بين أيديكم قراءة كاملة لمشهد جيوسياسي مشتعل، حيث تتصاعد وتيرة التوتر حول الملف النووي الإيراني إلى مستويات غير مسبوقة.
طهران، التي تتهم أجهزة استخبارات غربية بشن حرب إعلامية ضد برنامجها السلمي المزعوم، تلوح برفض أي مساومة، بينما تترقب عيون تل أبيب اللحظة الحاسمة لضربة عسكرية قد تشعل المنطقة بأكملها.
إنها رقصة على حافة الهاوية، حيث تتداخل التصريحات الدبلوماسية مع التهديدات العسكرية، وتتلاشى آمال التسوية في ظل صقيع عدم الثقة.
غضب طهران وتحدي واشنطن

في قلب هذه الدراما النووية، يقف صوت إيران متحدياً. فقد طالب إسماعيل بقائي، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، يوم (الأحد، 1 يونيو 2025)، بتوضيح رسمي من حكومة النمسا بشأن تقرير استخباراتي نمساوي وصفه بـ”الكاذب ولا أساس له”، زعم التشكيك في الطابع السلمي لبرنامج طهران النووي.
وبكلمات حادة، أدان بقائي “نشر الأكاذيب” من قبل جهاز الاستخبارات النمساوي، مؤكداً أنه “يُسهم في تقويض مصداقية الوكالة الدولية للطاقة الذرية”.

هذا الغضب الدبلوماسي لم يكن إلا غيضاً من فيض الموقف الإيراني المتصلب.
ففي 22 مايو 2025، أعلن إسماعيل كوثري، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني والجنرال في الحرس الثوري، أن “المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية لن تؤدي إلى أي نتيجة”.
وبنبرة لا تقبل التراجع، أكد أن “تخصيب اليورانيوم يعد العمود الفقري لأي برنامج نووي في العالم”، وأن “الضغوط الأمريكية هدفها منع إيران من الحصول على حقها الطبيعي في التكنولوجيا النووية”.
الأدهى من ذلك، هو تصريحه الجريء بأن بلاده “تملك القدرة الكاملة على تصنيع السلاح النووي”، لكنه عاد وأكد أن “المرشد الإيراني حرّم ذلك شرعاً، ولهذا لا نسعى إليه”.
هذا التصريح يحمل في طياته رسالة مزدوجة: قدرة نووية مؤكدة، لكن بقرار سياسي وديني يمنع تحويلها إلى سلاح.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فقد انتقد كوثري “ضعفاء النفوس والخونة” من المسؤولين الإيرانيين السابقين الذين أبدوا استعداداً لتعليق التخصيب مؤقتاً، مؤكداً أن “الفريق الإيراني المفاوض هذه المرة يعمل بشكل مختلف تماماً عن فريق الاتفاق النووي (2015)، وقراراته تخضع لرقابة كاملة، ويتم دعمه بشكل كامل للاستمرار ضمن الخطوط الحمراء“.
أما المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، فقد أكد في 20 مايو 2025 على ضرورة امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن تقديم “مطالب غير واقعية”، مشدداً على أنه “لا يمكن جلب إيران إلى طاولة المفاوضات من خلال التهديد”.
وذهب خامنئي إلى أبعد من ذلك، معرباً عن اعتقاده بأن “المفاوضات الحالية مع الأمريكيين ستكون بلا نتائج مثل تلك التي جرت في عهد الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي”.
هذه التصريحات تلقي بظلال الشك على أي إمكانية للتوصل إلى اتفاق في ظل هذه المواقف الإيرانية المتصلبة.

تقرير الوكالة الذرية.. الوقود لـ"القنبلة"؟
في خضم هذه الأجواء المشحونة، جاء تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية ليُشعل فتيل الأزمة بشكل أكبر. كشفت وثيقة سرية للوكالة، حصلت عليها وكالات أنباء غربية يوم (الأحد، 1 يونيو 2025)، أن “إيران ضاعفت، بشكل ملحوظ، إنتاجها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، حيث ارتفع المخزون إلى 408.6 كيلوغرامات بحلول 17 مايو 2025، بزيادة قدرها 133.8 كيلوغرامًا مقارنة بزيادة 92 كيلوغرامًا في الفترة السابقة”.

هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل هو إنذار مدوٍ: “مستوى التخصيب الحالي يقترب من النسبة العسكرية التي تبلغ 90%”، بحسب تقرير الوكالة، والذي أعرب عن “قلق بالغ” إزاء هذا التصعيد.
ولم يتوقف التقرير عند هذا الحد. فقد انتقدت الوكالة “تعاون طهران المحدود وغير المرضي”، مشيرة إلى أن إيران “امتنعت عن تقديم إجابات مقنعة حول أنشطتها النووية في 3 مواقع مشبوهة (لاويسان شيان، ورامين، وتورقوز آباد)”.
والأخطر من ذلك، تأكيد الوكالة أن “إيران نظّفت هذه المواقع ما أعاق تحقيقات الوكالة، مع وجود أدلة على أنشطة نووية سابقة غير معلنة تعود لأوائل العقد الأول من القرن الحالي”.
هذا الكشف يضيف طبقة جديدة من التعقيد والريبة للبرنامج النووي الإيراني، ويعزز الشكوك حول نوايا طهران.

تأتي هذه التطورات بينما تستعد الدول الغربية (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) لدفع مجلس محافظي الوكالة، الذي يضم 35 دولة، إلى عقد اجتماع حاسم في 9 يونيو المقبل (2025)، لإعلان عدم امتثال إيران لالتزاماتها النووية لأول مرة منذ عام 2005.
هذه الخطوة، إن حدثت، ستكون بمثابة إعلان حرب دبلوماسية، ومن المتوقع أن تدفع طهران إلى “مزيد من التصعيد النووي”، وفقاً للوكالة نفسها.

فإيران، كما أكد وزير خارجيتها عباس عراقجي يوم (الأحد، 1 يونيو)، أن “تخصيب اليورانيوم من ضروريات البلاد واحتياجاتها الأساسية، وله استخدامات كثيرة”، وأن “سياسة إيران الخارجية مبنية على عدم الخضوع للهيمنة الأجنبية“.
المخاوف تزداد حدة مع تقارير تؤكد أن إيران تمتلك حالياً كمية كافية من اليورانيوم المخصب لصنع 6 قنابل نووية، في حال رفع مستوى التخصيب إلى 90%.
رقصة الدبلوماسية تحت مظلة التهديد والإنكار
بينما تتصاعد أصوات القلق والتحذير من تقرير الوكالة الذرية، تظهر إيران على جبهة دبلوماسية أخرى، محاولةً إعادة ترتيب أوراقها الإقليمية، أو ربما البحث عن مسارات بديلة. ففي خطوة ذات دلالة، كشفت طهران يوم (الاثنين الماضى، 2 يونيو 2025) عن تفاصيل زيارة يوم أمس التي أجراها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى مصر أمس الثلاثاء (3 يونيو 2025)، ثم لبنان.
هذه الزيارة، التي تأتي بدعوة من وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، ستشمل لقاءات مع مسؤولين مصريين رفيعي المستوى، على رأسهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وهو ما يؤشر إلى رغبة إيرانية في تعزيز العلاقات مع القاهرة التي توترت لعقود بعد الثورة الإسلامية عام 1979 بسبب اتفاقية السلام المصرية مع إسرائيل. %.

هل تسعى طهران لفتح قنوات دبلوماسية جديدة لتخفيف الضغط الدولي المتزايد؟
أم أن الهدف هو حشد الدعم الإقليمي في مواجهة التصعيد المحتمل؟
على صعيد آخر، لم تكن طهران لتصمت طويلاً على اتهامات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فقد يوم (الأحد، 1 يونيو 2025) الماضى صحة ما ورد في تقرير الوكالة بشأن وجود مواقع أو أنشطة نووية غير معلنة لديها.
وفي بيان قوي، أكدت أن “تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن تخصيب اليورانيوم في إيران يستند إلى ‘وثائق مزورة’ قدمتها إسرائيل”، ووصفته بأنه “غير متوازن” و”مُسيّس”. وقد حذرت إيران من أنها “ستتخذ إجراءات ضد الدول التي قد تسعى إلى إساءة استخدام تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في اجتماع مجلس محافظي الوكالة”.
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في اتصال هاتفي مع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي مساء الماضى، أكد أن “الأنشطة النووية الإيرانية تجري تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووفق اتفاقية الضمانات، دون أي انحراف”، محذراً من “تبعات أي إجراء ذي طابع سياسي
في هذه الأجواء، أعلن رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، محمد إسلامي، يوم (الاثنين، 2 يونيو 2025) ، أن إيران “أعدت مواقع شمال وجنوبي البلاد لبناء محطتين للطاقة النووية”، مشدداً على أن “التخصيب يُعدّ الأساس لإنتاج الأدوية المشعة والتكنولوجيا المتقدمة”، وأنه يمثل “الخط الأحمر لإيران، ولا يحق لأي دولة أن تسلب هذا الحق الأصيل من الشعب الإيراني أو تتدخل فيه”.

هذه التصريحات تؤكد على إصرار إيران على المضي قدماً في برنامجها النووي المدني، رغم كل التحذيرات والاتهامات.

بينما تتحدث طهران عن حقها في الطاقة النووية السلمية، وتتهم الغرب بازدواجية المعايير، وتلوح بقدرتها العسكرية، فإن واشنطن وتل أبيب تضعان الخيار العسكري على الطاولة بشكل متزايد.

فقد طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأحد الماضى، المجتمع الدولي بالتحرك العاجل لوقف البرنامج النووي الإيراني، معتبراً أن “التقرير [الوكالة الذرية] يُظهر بوضوح أن البرنامج النووي الإيراني ليس سلمياً، وأن طهران تواصل السعي بشكل ممنهج نحو استكمال مشروعها النووي العسكري

ضوء خافت في نفق المفاوضات.. هل يبقى؟
وسط هذا الضجيج والتهديدات المتبادلة، أعلنت الجولة الخامسة من المفاوضات غير المباشرة بين إيران وأمريكا، التي اختتمت في روما في 23 مايو 2025، عن إحراز “بعض التقدم”.
هذا التقدم جاء على لسان وزير الخارجية العماني، بدر البوسعيدي، الذي أعرب عن أمله في أن “تشهد الأيام المقبلة مزيدا من الوضوح بشأن القضايا العالقة، ما يُمهّد الطريق نحو اتفاق مستدام ومشرّف يُرضي جميع الأطراف”.
وفي تصريح إيراني، قال وزير الخارجية عباس عراقجي إن هذه الجولة كانت “الأكثر مهنية”، وأن نظيره العماني قدم مقترحات لإزالة العقبات ستدرسها الوفود بعد التشاور في العواصم.

التفاؤل ذاته انعكس في تصريحات رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، محمد إسلامي، الأحد، الماضى، الذي أعلن أن “المفاوضات غير المباشرة الجارية مع أمريكا تشهد تقدما ملحوظا”.
هذا التصريح، الذي جاء خلال فعالية في محافظة مازندران، يشير إلى أن هناك مساراً دبلوماسياً لا يزال مفتوحاً، حتى وإن كان بطيئاً ومعقداً.
وقد كرر إسلامي نفي طهران نيتها وقف تخصيب اليورانيوم، واصفاً تلك الأحاديث بـ”شائعات وأوهام يحلم بها الأعداء”، مؤكداً أن “تخصيب اليورانيوم يُعد العمود الفقري والقوة الأساسية لصناعة الطاقة النووية في إيران“.

بينما تتحدث واشنطن عن قرب التوصل إلى اتفاق، وتلوح طهران بـ”التقدم” في المفاوضات، يبقى السؤال الأهم: هل هذا “التقدم” كافٍ لتجاوز العقبات الجسيمة التي يضعها تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟
فإيران، كما أشرنا سابقاً، ترفض تقرير الوكالة، وتصفه بـ”المُسيّس” و”المبني على وثائق مزورة قدمتها إسرائيل”.
هذا التباين الجذري في الروايات والاتهامات يضع أي “تقدم” في المفاوضات تحت ضغط هائل.
تتواصل المفاوضات وجهاً لوجه على أراضٍ محايدة، بين مسقط وروما، في محاولة لردم الهوة بين المواقف المتباينة.
لكن بينما يتحدث الدبلوماسيون عن “بعض التقدم”، تتصاعد التهديدات على الجبهة العسكرية، وتتزايد أرقام اليورانيوم المخصب في إيران. هل هذا “التقدم” مجرد تكتيك لكسب الوقت؟ أم أنه إشارة حقيقية إلى إمكانية التوصل إلى تسوية تحفظ ماء وجه الجميع وتجنب المنطقة صراعاً مروعاً؟ الجواب قد يتحدد في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 9 يونيو المقبل (2025)، حيث سيُختبر مدى تأثير تقارير الوكالة على المسار الدبلوماسي.

المقترح الأمريكي.. هل هو طوق نجاة أم فخ؟
في خضم هذه المعركة الدبلوماسية والاستخباراتية، كشف البيت الأبيض الأحد الماضى،عن إرسال “مقترح مكتوب” إلى إيران بشأن اتفاق نووي محتمل.
هذه الخطوة، التي تهدف إلى “تخفيف حدة التوتر القائم”، جاءت بعد خمس جولات من المفاوضات غير المباشرة بوساطة عمانية.
وقد أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي تلقيه “عناصر” هذا المقترح عبر نظيره العماني بدر البوسعيدي، مشيراً إلى أن “الرد عليه سيكون بشكل مناسب، بما يتماشى مع مبادئ إيران ومصالحها الوطنية وحقوق شعبها“.

لكن طهران، وفي بيان حاسم يوم الماضى ، أكدت أن “استلام مقترح مكتوب من أمريكا بشأن اتفاق نووي لا يعني القبول به”، مشيرة إلى أن المقترح “يخضع حاليا للدراسة قبل الرد عليه وفق مضمونه”. المتحدث باسم الخارجية، إسماعيل بقائي، شدد على أن تسلم النص “لا يعني القبول به مطلقا، ولا حتى من حيث المبدأ”، مؤكداً أن إيران “لن توافق على أي مقترح يتضمن مطالب مبالغ فيها أو يتجاهل تلك الحقوق”.
هذا الموقف يضع الكرة في الملعب الأمريكي، ويؤكد على أن الطريق إلى الاتفاق لا يزال محفوفاً بالصعوبات.
كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض، علقت قائلة إنه من “مصلحة طهران قبول هذا الاتفاق”، مشددة على أن “الرئيس ترامب أوضح أن إيران لا يمكنها أبداً الحصول على قنبلة نووية”.
هذا التصريح يشير إلى أن المقترح الأمريكي ربما يتضمن شروطاً صارمة تتعلق بمنع إيران من حيازة السلاح النووي، وهو ما يتناقض مع تأكيدات إيران المتكررة على سلمية برنامجها.
إن هذا المقترح يأتي في وقت حرج، حيث كشف تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن أن إيران “تمتلك حاليًا أكثر من 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهي نسبة تقترب من الـ90% المطلوبة لصناعة القنابل النووية”.
وفي المقابل، ترفض إيران بشدة تقرير الوكالة، وتعتبره “مُسيّساً” و”مبنياً على وثائق مزورة قدمتها إسرائيل“.
هكذا، تتشابك خيوط الأزمة النووية الإيرانية بين التفاوض، والتصعيد، والرفض، والقبول المشروط.
هل هذا المقترح الأمريكي هو الفرصة الأخيرة لتجنب التصعيد؟
أم أنه مجرد مناورة دبلوماسية في لعبة عض الأصابع؟
طهران تدرسه، والبيت الأبيض ينتظر، بينما تترقب عيون العالم والمنطقة مصير هذا الاتفاق الذي قد يحدد مستقبل الصراع أو السلام في الشرق الأوسط.
إن الرد الإيراني المرتقب سيُشكل نقطة تحول حاسمة في هذه القصة الدرامية، فهل يكون إيذاناً بانتهاء أزمة نووية عمرها عقود، أم مجرد حلقة جديدة في مسلسل طويل من التوتر والتهديدات؟