افتتاحية مدوية: اختبار ذوبان الجليد في روما: هل تنتهي "رقصة الزيت والنار" بين ميلوني وماكرون حول ليبيا؟
روما، إيطاليا – 3 يونيو 2025 – “ياللعار يا ماكرون!”، كلمات مدوية أطلقتها جورجيا ميلوني في ديسمبر 2018، ليست مجرد ذكرى بعيدة، بل هي صدى لخلافات عميقة لطالما عصفت بالعلاقات الإيطالية-الفرنسية.
هذه “الرقصة المتوترة بين الشراكة الضرورية والخلافات العميقة” وصلت إلى ذروتها على خلفية قضايا حارقة كليبيا، الهجرة، وحتى تقاسم النفوذ في القارة الأفريقية.
واليوم، بعد 2366 يوماً بالتمام والكمال من ذلك اليوم الذي وصف فيه ماكرون الإيطاليين بـ”المقرفين”، تستقبل روما زعيم باريس في لقاء يحمل في طياته أكثر من مجرد بروتوكول دبلوماسي.
هل هو مجرد “اختبار ذوبان الجليد” أم “هدوء ما قبل العاصفة”؟
أوروبا والعالم يترقبون هذا “الثلاثاء” الحاسم، حيث تجتمع ميلوني وماكرون على وقع توترات متجددة حول أوكرانيا، وسياسات هجرة أوروبية تتشكل، والأهم، مصير ليبيا التي كانت ولا تزال نقطة الاشتعال الأبرز بين العاصمتين.
هل يمكن للزعيمين تجاوز الماضي المليء بالاتهامات المتبادلة حول “قصف ليبيا لأجل الطاقة” و”فوضى الهجرة”، وبناء شراكة استراتيجية حقيقية؟
أم أن هذا الاجتماع المنتظر سيكون مجرد فصل آخر في مسلسل الخلافات الذي يهدد استقرار القارة بأسرها؟
الإجابة قد بدأت تتضح من روما.
لقاء "رائع" يكسر الجليد: ميلوني وماكرون يفتحان صفحة جديدة

في قصر كيجي بالعاصمة الإيطالية روما، ذاب الجليد على ما يبدو. فبعد لقاء ثنائي دام قرابة ثلاث ساعات وعشاء عمل مطول، غادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لقاءه برئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بتصريح مقتضب لكنه ذو دلالة: “لقاء رائع، شكراً لكِ سيادة الرئيسة جورجيا ميلوني“.
هذه الكلمات، التي أعقبها تغريدة على منصة X أكد فيها ماكرون أن الاجتماع “سمح لنا بتعميق تنسيقنا لدفع الأجندة الفرنسية الإيطالية والأوروبية معاً.
أوروبا تُبنى بالحوار والعمل”، جاءت لتؤكد نجاحاً دبلوماسياً لافتاً.
لم تكن الابتسامات والعناقات أمام الكاميرات مجرد لقطات بروتوكولية؛ بل كانت تعبيراً عن بداية جديدة تُظهر إرادة سياسية قوية لتجاوز الخلافات.
وقد عكس هذا التفاؤل ما نشرته صحيفة “سود دويتشه تسايتونغ” الألمانية، التي عنونت تعليقها بـ”بضعة ميلوني إضافية قد تفيد أوروبا”، ودعت باريس وبرلين إلى عدم إهمال روما، مؤكدةً على “الدور الاستراتيجي” الذي تلعبه إيطاليا في عهد ميلوني. هذا الاجتماع، الذي وُلدت فكرته من محادثة عابرة في جنازة البابا فرنسيس، يمثل محاولة جادة لتخفيف التوترات بعد أشهر من الخلافات المجددة، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع إدارة ترامب وقضية أوكرانيا.
شراكة استراتيجية أم تقارب تكتيكي؟
هل يعتبر هذا الاجتماع الثنائي شراكة استراتيجية بعد وصفه بـ”العظيم”؟
الإجابة من البيان المشترك الصادر عن قصر كيجي، والتصريحات اللاحقة، تشير بقوة إلى ذلك.
البيان شدد على “تقارب قوي في الأجندة الأوروبية” في مجالات حيوية مثل التنافسية، الازدهار، تبسيط اللوائح، الاستثمارات، والطاقة (بما في ذلك الطاقة النووية).
كما أكد البيان على عزم البلدين تعزيز “التزامهما المشترك بأوروبا أكثر سيادةً وقوةً وازدهارًا”.
هذا التوافق، خاصة في قطاعات مثل صناعات السيارات والصلب، والذكاء الاصطناعي، والفضاء، يوحي ببناء جبهة أوروبية موحدة لمواجهة التحديات الاقتصادية العالمية.
الأهم من ذلك، تم الاتفاق على عقد القمة الثنائية المقبلة في فرنسا مطلع عام 2026 لتقييم وتحديث برنامج العمل المنصوص عليه في معاهدة كويرينالي، التي دخلت حيز النفاذ عام 2023.
هذا الاتفاق يؤكد أن المعاهدة، التي تأثرت سابقاً بالاحتكاكات حول الانتخابات الأوروبية ومجموعة السبع والإجهاض، عادت لتكون محوراً للتعاون طويل الأمد، مع التركيز بشكل خاص على الشباب.
مكاسب متعددة الأوجه وتأثيرات متباينة

على من ستنعكس نتائج هذا الاجتماع الثنائي؟
وما هي المكاسب التي حققتها كل من إيطاليا وفرنسا، وبشكل أوسع، ليبيا، أوكرانيا، وإيران؟
المكاسب لإيطاليا وميلوني:
. تعزيز الدور الأوروبي: حظيت إيطاليا باعتراف دولي صريح بدورها الاستراتيجي، كما أشارت “سود دويتشه تسايتونغ” الألمانية وقصر الإليزيه، الذي وصف إيطاليا بـ”الشريك المهم” وذات “دور حاسم في عملية صنع القرار الأوروبي”.
هذا التقدير يعزز مكانة ميلوني على الساحة الأوروبية.
. شرعنة السياسات: ميلوني التي سعت لـ”المساواة في الكرامة” مع ماكرون، حققت ذلك دبلوماسياً.
موقفها “الحازم والملتزم على الصعيد الدولي” أصبح محل تقدير، خاصة في قضايا الهجرة، حيث ستستفيد من التنسيق الأوروبي في ملف “إعادة المهاجرين إلى دول ثالثة” الذي طرحته مع ألمانيا.
. حكومة مستقرة: الإشارة إلى أن إيطاليا تتمتع بـ”حكومة مستقرة” (وهو أمر غير معتاد) يمنح ميلوني نفوذاً إضافياً في المفاوضات الأوروبية ويقوي من يدها داخلياً.
. طاقة للداخل: هذا التقارب يعزز موقف ميلوني داخلياً، ويقدمها كزعيمة قادرة على إدارة العلاقات الدولية المعقدة.
المكاسب لفرنسا وماكرون:
. تهدئة جبهة داخل أوروبا: بعد التوترات الأخيرة مع إيطاليا وألمانيا، حقق ماكرون نجاحاً في رأب الصدع مع روما، مما يعزز موقفه كقائد أوروبي يسعى للوحدة، خاصة مع قرب القمم الأوروبية الحاسمة (مجموعة السبع ومجلس الاتحاد الأوروبي).
. دعم للأجندة الأوروبية: التوافق على تعزيز “أوروبا أكثر سيادة وقوة وازدهاراً” يخدم رؤية ماكرون لأوروبا قوية وموحدة وذات سياسة دفاعية مستقلة.
. شريك في ملفات حساسة: إيطاليا كشريك مستقر وله نفوذ في المتوسط وفي قضية الهجرة، تكتسب أهمية لماكرون في مواجهة تحديات مشتركة، وتخفف من العبء على فرنسا في هذه الملفات.
المكاسب المشتركة (جيوسياسية واقتصادية):
. أوروبا موحدة: الاتفاق على تعزيز التنافسية، الطاقة (بما في ذلك النووية التي تهتم بها فرنسا)، والسياسات المشتركة، يرسل رسالة قوية بوحدة الصف الأوروبي في وجه التحديات العالمية (مثل الرسوم الجمركية الأمريكية، التوترات الجيوسياسية).
. الهجرة: التوافق على “مكافحة الهجرة غير الشرعية” و”ضبط الحدود الخارجية” يعكس توجهاً أوروبياً موحداً قد يخفف العبء عن دول المواجهة مثل إيطاليا وفرنسا على حد سواء.
التأثير على ليبيا:
. على الرغم من أن البيان المشترك لم يذكر تفاصيل حول ليبيا، إلا أن الإشارة إليها كـ”قضية أمنية أخرى ذات أهمية لأوروبا” تؤكد أنها كانت على طاولة النقاش.
التوافق الفرنسي-الإيطالي حول ليبيا، مع مصالح البلدين في قطاع الطاقة (شركات إيني وتوتال) وقضية الهجرة، يمكن أن يؤدي إلى تنسيق أكبر للجهود الأوروبية الهادفة إلى تحقيق الاستقرار في هذا البلد الذي يقع في قلب العاصفة.
ذوبان الجليد بين روما وباريس قد يفتح الباب أمام جهود دبلوماسية موحدة في ليبيا، وربما تخفيف حدة التنافس السابق على الامتيازات، مما يصب في مصلحة استقرار ليبيا ولو على المدى الطويل.
التأثير على أوكرانيا:
. البيان أكد “دعم فرنسا وإيطاليا الثابت والمستمر لأوكرانيا للتوصل إلى حل عادل ودائم”.
هذا التوافق على “نقلة نوعية طموحة في الدفاع الأوروبي” يعكس التزاماً أوروبياً جماعياً بدعم كييف، وربما البحث عن مسار سلام بعد محادثات إسطنبول، لكن ضمن إطار أوروبي موحد، رغم التباينات التكتيكية حول إرسال قوات.
ميلوني أكدت بوضوح أنها “غير مستعدة لإرسال قوات” في تناقض مع “تحالف الراغبين” الذي يدفع إليه ماكرون.
التأثير على إيران:
. لم تُذكر إيران بشكل مباشر في المعلومات المقدمة، لكن الحديث عن “قضايا أمنية أخرى ذات أهمية لأوروبا” قد يشمل القضايا الإقليمية التي تؤثر على الأمن الأوروبي، والتي قد يكون لإيران دور فيها.

نقطة الخلاف الجوهرية: "تحالف الراغبين" في أوكرانيا ومستقبل أوروبا
على الرغم من الابتسامات والبيانات المشتركة، كشفت تفاصيل ما وراء الكواليس عن نقطة خلاف جوهرية لا تزال تباعد بين روما وباريس، وتحديداً في ملف أوكرانيا: “تحالف الراغبين“.
لقد ولّى زمن “التقارب الدافئ” الذي ميّز علاقة ماكرون بسلف ميلوني، ماريو دراغي، والذي تجسد في صورة القادة الأوروبيين على متن قطار متجه إلى كييف عام 2022.
فميلوني، على عكس دراغي، لم تكن جزءاً من الصورة التي جمعت مؤخراً ماكرون مع المستشار الألماني فريدريش ميرز ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في زيارة لكييف، وهو ما عكس بوضوح اختلاف النهج.
ماكرون، خاصة مع احتمالية عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض وتأثير ذلك على التحالفات الغربية، دفع باتجاه تشكيل “تحالف الراغبين” من الدول الأوروبية المستعدة لتقديم ضمانات أمنية وحتى نشر قوات (جنود) في أوكرانيا كجزء من قوة حفظ سلام عند توقيع وقف إطلاق النار.
هذا التوجه اصطدم بوضوح مع الموقف الإيطالي.
فميلوني، التي أكدت مراراً دعم روما الاقتصادي والعسكري لأوكرانيا، شعرت بالحاجة لتوضيح موقفها في قمة الجماعة السياسية الأوروبية بتيرانا (17 مايو)، حيث صرحت بوضوح: “أعلنت إيطاليا منذ فترة طويلة أنها غير مستعدة لإرسال قوات“.
وبينما حاول ماكرون تلطيف الأجواء بتوضيح أن النقاش كان حول وقف إطلاق النار وليس إرسال قوات، فإن الجدل حول هذا “التحالف” يكشف عن انقسام استراتيجي عميق.
الخلاف يمتد أيضاً إلى الرسوم الجمركية الأمريكية، حيث يرى الإيطاليون أن قربهم الأيديولوجي من إدارة ترامب قد يمنحهم نفوذاً لإثنائه عن فرض رسوم جمركية، بينما ترى باريس أن المفاوضات التجارية هي مسؤولية المفوضية الأوروبية، مما يقلل من دور ميلوني كوسيط محتمل.
حتى مسألة “مظلة الناتو” والحماية بموجب المادة الخامسة لأوكرانيا دون انضمامها المباشر للحلف، والتي اقترحتها إيطاليا للتحايل على الرفض الروسي والأمريكي، وجدت صعوبة في التوافق الفرنسي بسبب تعقيدات التطبيق.
هذا التباين لا يقتصر على أوكرانيا، بل يمتد أيضاً إلى الشرق الأوسط ومأساة غزة، حيث طالبت ميلوني بإدانة “أكثر صراحة ورسمية لتصرفات الحكومة الإسرائيلية ضد السكان المدنيين الفلسطينيين”، مما يشير إلى اختلافات في حدة المواقف الدبلوماسية تجاه النزاع.
على الرغم من كل الجهود المعلنة لتهدئة التوترات، ووعود “المساواة في الكرامة” التي طلبتها ميلوني، يظل هذا “اللقاء الودي” في قصر كيجي يخفي تحت سطحه خلافات استراتيجية عميقة بين “طرفين متعارضين” من حيث الرؤى السياسية تجاه أوروبا والعالم، خاصة في ملفات الدفاع والأمن. إن المصالح المشتركة (مثل دعم أوكرانيا بصفة عامة) قد تسمح بتجاوز بعض الخلافات، لكن “ائتلاف الراغبين” في كييف يبقى نقطة خلاف جوهرية تكشف حدود التقارب.
ليبيا في قلب العاصفة: طاقة، هجرة، وصراع السلطة

بالنظر إلى الجذور التاريخية للخلافات بين ميلوني وماكرون، خصوصًا اتهام إيطاليا لفرنسا بقصف ليبيا سعياً لامتيازات الطاقة، يبقى ملف ليبيا نقطة محورية رغم عدم تفصيلها في البيان المشترك.
تتواجد شركة إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية بقوة في قطاع الطاقة الليبي، وتتضارب مصالحهما أحياناً في هذا البلد الغني بالموارد.
من جهة أخرى، تشهد ليبيا حالياً تطورات داخلية حساسة. فالمظاهرات المطالبة بإقالة حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس تعكس حالة من عدم الاستقرار السياسي، بينما يأتي الاستعراض القوي للجيش في شرق ليبيا بقيادة المشير خليفة حفتر ليضيف بعداً جديداً للتوترات الجيوسياسية الداخلية والخارجية.
هذه التطورات تضع ميلوني وماكرون أمام تحدٍ معقد: فهل سيتمكن الزعيمان من تجاوز خلافاتهما حول الامتيازات والتنسيق لضمان الاستقرار في ليبيا؟
لا سيما مع التوجه الأوروبي الجديد نحو إعادة المهاجرين، والذي يجعل من ليبيا بوابة حاسمة في طريق الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا. يبقى هذا الملف الشائك على رأس قائمة التحديات التي يجب على ميلوني وماكرون مواجهتها.
إن حل “عقدة الطاقة والهجرة” في ليبيا في ظل صراع السلطة وعودة الجيش سيتطلب تعاوناً حقيقياً يفوق المصالح الفردية، ويبدو أن التقارب الإيطالي-الفرنسي الأخير قد يكون خطوة أولى نحو ذلك، وإن كانت محفوفة بالحذر.
مفارقات الزمن: هل يذوب الثلج حقاً؟

يا لها من صدفة مثيرة! فالمؤتمر الصحفي الذي وصفت فيه ميلوني ماكرون بـ“ياللعار” كان في الثلاثاء 11 ديسمبر 2018.
والآن، بعد مرور 2366 يوماً بالتمام والكمال، يتجدد اللقاء المرتقب بين الزعيمين في روما، أيضاً في يوم الثلاثاء 3 يونيو 2025.
هذا التشابه في يوم الأسبوع بعد كل هذه المدة يضفي طابعاً خاصاً على هذا الاجتماع، ويجعلنا نتساءل: هل حمل هذا “الثلاثاء” الجديد مصالحة تاريخية، أم فصلاً آخر من فصول الخلافات؟
إن يوم الثلاثاء كان حاسماً. إنه ليس مجرد لقاء بين رئيسي دولتين؛ إنه اختبار حقيقي لقدرة أوروبا على تجاوز خلافاتها الداخلية في وجه التحديات العالمية.
لقد أظهر الزعيمان نية واضحة لـ”تهدئة الخلافات”، رغم أن الدعاية في روما كانت محدودة، فلم يكن هناك ظهور مشترك أمام الكاميرات وتصريحات صحفية أقل بكثير. هذا يشير إلى أن التقارب، رغم أهميته، ما زال هشاً ويتطلب المزيد من الجهد.
في الختام، بينما أظهر اجتماع روما قدرة على “ذوبان الجليد” وفتح قنوات حوار ضرورية بين قوتين أوروبيتين رئيسيتين، فإن التحديات الاستراتيجية الكامنة، خاصة حول ملف أوكرانيا ومستقبل الدفاع الأوروبي والعلاقة مع الولايات المتحدة، لا تزال قائمة. إنها “قصة سياسية بين طرفين متعارضين وتقارب استراتيجي” تتطلب متابعة حثيثة لمعرفة ما إذا كانت الشراكة المعلنة ستصمد أمام اختبارات المستقبل.