في قلب تحولات المشهد الجيوسياسي والاقتصادي العالمي، ترسم رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني خريطة جديدة لسياسة بلادها الخارجية.
فبينما تترقب أوروبا لقاءها المرتقب مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في روما، كانت ميلوني قد دشنت رحلة استراتيجية بالغة الأهمية إلى آسيا الوسطى، هدفها الأسمى تعزيز مكانة إيطاليا على الساحة الدولية وتأمين مصالحها الحيوية.
لم تكن هذه الزيارة مجرد جولة دبلوماسية، بل كانت خطوة محسوبة نحو تحقيق أهداف سياسية واقتصادية بعيدة المدى.
أهداف ميلوني: تعزيز الشراكة، تأمين الموارد، وتوسيع النفوذ
كانت زيارة ميلوني إلى أوزبكستان وكازاخستان، تليها اجتماعات مع قادة دول آسيا الوسطى الأخرى ترجمة عملية لعدة أهداف إيطالية محورية:
بناء الشراكات الاستراتيجية: أكدت ميلوني مراراً أن “أوزبكستان شريك بالغ الأهمية.
علاقاتنا متينة وممتازة منذ زمن طويل.
منذ عام 2023، سعينا إلى الارتقاء بها إلى مستوى أعلى من خلال الشراكة الاستراتيجية، والآن نسعى إلى تعزيزها بشكل أكبر”. هذا التصريح يوضح رغبة إيطاليا في تجاوز العلاقات التقليدية إلى
شراكات استراتيجية أعمق وأكثر شمولاً، لا سيما مع دول تقع على مفترق طرق تجارية وجيوسياسية هامة.
تأمين مصادر الطاقة والمواد الخام الحيوية: تمثل آسيا الوسطى كنزاً من الموارد الطبيعية.
ميلوني سعت لتأمين مصادر جديدة للطاقة والمواد الخام الاستراتيجية التي تحتاجها الصناعة الإيطالية، خاصة في ظل سعي أوروبا الحثيث لتقليل اعتمادها على موردين محددين وتنويع سلاسل الإمداد.
الاتفاقيات الموقعة مع أوزبكستان، والتي تتضمن استثمارات تتجاوز 3 مليارات دولار في قطاعات حيوية مثل البنية التحتية والطاقة خير دليل على هذا التوجه.
وفي كازاخستان، ثالث أكبر شريك تجاري لإيطاليا في المنطقة، ركزت المباحثات على قطاعات الطاقة والمواد الخام الحيوية، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة الإيطالية.
تعزيز الحضور الجيوسياسي لإيطاليا: إيطاليا تدرك الأهمية المتزايدة لآسيا الوسطى كمنطقة محورية بين الشرق والغرب.
إطلاق “آلية 1+5” عام 2019، التي تجمع إيطاليا مع الدول الخمس في المنطقة (كازاخستان قيرغيزستان، طاجيكستان، تركمانستان، أوزبكستان)، يعكس رؤية إيطالية لتعزيز نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي في هذه المنطقة الاستراتيجية.
القمة في أستانا، وهي الأولى على مستوى القادة في إطار هذه الآلية، تهدف إلى وضع أولويات واضحة للتعاون في مجالات الأمن، إدارة الموارد المائية، والتدريب الأكاديمي والمهني، مما يعزز دور إيطاليا كشريك موثوق ومسؤول.
دعم الاستقرار والتنمية الإقليمية: إيطاليا لا تسعى فقط لمصالحها الاقتصادية، بل تدرك أن استقرار آسيا الوسطى يسهم في الأمن الإقليمي والعالمي.
التعاون في مكافحة الإرهاب والاتجار بالمخدرات، إلى جانب الاستثمار في البنية التحتية والتعليم، يعكس التزام إيطاليا بدعم التنمية المستدامة في المنطقة.
واقع الزيارة: تفاصيل وجوهر اللحظات
انطلقت رحلة ميلوني الاستراتيجية إلى آسيا الوسطى في 28 مايو، لتُفتتح باجتماع ثنائي في سمرقند مع رئيس أوزبكستان شوكت ميرضيائيف. هذا اللقاء، الذي وصفه الزعيمان بـ”التاريخي”، لم يكن مجرد تبادل للحديث الدبلوماسي. فقد استُقبلت رئيسة الوزراء بمراسم عسكرية مهيبة في مركز المؤتمرات بسمرقند، وفي ختام اللقاء الثنائي، أُقيم حفل توقيع الاتفاقيات بين البلدين.
في أوزبكستان: ميلوني أعربت عن سعادتها بالوفاء بالتزامها بزيارة أوزبكستان كأول زيارة لها إلى منطقة آسيا الوسطى، شاكرةً الترحيب الاستثنائي الذي أظهرته أوزبكستان.
الرئيس ميرضيائيف أشاد باستقرار الحكومة الإيطالية ونمو مكانتها الدولية، مؤكداً أن “إيطاليا تعد لاعباً رئيسياً في مجموعتي الدول السبع ومجموعة العشرين”.
أهم إنجاز لهذا الشق من الزيارة كان توقيع إعلان مشترك يتضمن اتفاقيات تتجاوز 3 مليارات دولار من الاستثمارات، بالإضافة إلى إنشاء حوار استراتيجي ولجنة اقتصادية مشتركة.
كما تم الاتفاق على إنشاء لجنة حكومية دولية تُعنى بسياسة الاستثمار في الثقافة والتعليم، وتعيين مسؤولين في الفرق المعنية، مما يؤكد على عمق التعاون المستقبلي. بعد اللقاءات الرسمية، خصصت ميلوني وقتاً لغرس الأشجار وزيارة ثقافية إلى ساحة ريجستان التاريخية، التي شهدت عروض الأضواء الساحرة التي استمتعت بها ميلوني عند وصولها الليلة الماضية، لتُظهر الجانب الثقافي والدبلوماسية الشعبية للزيارة.
الانتقال إلى كازاخستان: في وقت لاحق من نفس اليوم، غادرت رئيسة الوزراء إلى كازاخستان للمشاركة، صباح الجمعة 30 مايو، في منتدى أستانا الدولي. هذا المنتدى، الذي يُكرّس هذا العام لموضوع “تواصل العقول، ورسم ملامح المستقبل”، يُمثل منصةً للحوار العالمي حول السياسة الخارجية والأمن الدولي، التحول في مجال الطاقة وتغير المناخ، والاقتصاد والمالية.
ميلوني ستُلقي كلمة في إحدى الجلسات الرئيسية للمنتدى، لتُشارك رؤية إيطاليا في هذه القضايا الحيوية.
على هامش المنتدى، ستُجري ميلوني اجتماعاً ثنائياً مع رئيس دولة كازاخستان، قاسم جومارت توكاييف، سيُختتم بتوقيع إعلان مشترك حول الشراكة الاستراتيجية الثنائية. سيتم أيضاً توقيع وتبادل العديد من اتفاقيات التعاون، مع التركيز على قطاعات رئيسية مثل البنية التحتية والطاقة والمواد الخام الحيوية ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، مما يعزز موقع إيطاليا كشريك اقتصادي أساسي.
قمة “إيطاليا وآسيا الوسطى” التاريخية: الحدث الأبرز في هذه المهمة هو قمة “إيطاليا وآسيا الوسطى”، التي ستُعقد أيضاً في أستانا في 30 مايو.
تُمثل هذه القمة أول اجتماع من نوعه على مستوى القادة في إطار آلية 1+5، التي أطلقتها إيطاليا عام 2019.
خلال هذا الجزء من الزيارة، ستلتقي ميلوني أيضاً برؤساء دول آسيا الوسطى الأخرى: صدر جباروف (قيرغيزستان)، إمام علي رحمان (طاجيكستان)، وسردار بردي محمدوف (تركمانستان). المحادثات تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية واستكشاف أوجه تآزر جديدة في المجالات السياسية والاقتصادية والإقليمية. سيُختتم الاجتماع باعتماد إعلان مشترك يُحدد أولويات التعاون الإقليمي في مجالات الطاقة، والمواد الخام الاستراتيجية، والإدارة المستدامة للموارد المائية، والأمن (مع التركيز بشكل خاص على مكافحة الإرهاب والاتجار بالمخدرات)، والتواصل، والتدريب الأكاديمي والمهني.
هل حققت ميلوني أهدافها؟ الأبعاد السياسية والاقتصادية للزيارة
يمكن القول إن ميلوني حققت نجاحات أولية ملموسة في هذه الزيارة.
سياسياً: تمكنت ميلوني من تعزيز مكانة إيطاليا كشريك استراتيجي في آسيا الوسطى. الترحيب الحار من الرئيس الأوزبكي وإشادته باستقرار الحكومة الإيطالية ودورها المتنامي في مجموعة السبع ومجموعة العشرين، يعكس تقديراً دولياً متنامياً للدور الإيطالي.
قمة “آلية 1+5” تضع إيطاليا في موقع قيادي لتعزيز الحوار والتعاون الإقليمي، وهو ما يخدم أهداف السياسة الخارجية الإيطالية في تنويع الشراكات وتقليل الاعتماد على محاور تقليدية.
اقتصادياً: توقيع اتفاقيات استثمارية ضخمة، خاصة مع أوزبكستان (أكثر من 3 مليارات دولار)، يفتح آفاقاً جديدة للشركات الإيطالية ويعزز تدفقات التجارة والاستثمار المتبادلة.
التركيز على قطاعات مثل الطاقة والبنية التحتية والمواد الخام الحيوية يشير إلى بعد استراتيجي لضمان أمن الإمدادات لإيطاليا. هذه الخطوات تعزز من مرونة الاقتصاد الإيطالي وتُسهم في تحقيق أهداف الاتحاد الأوروبي الأوسع في تأمين سلاسل القيمة.
أبعاد الزيارة على إيطاليا:
تُعد هذه الزيارة نقطة تحول في السياسة الخارجية الإيطالية. إنها تعكس ابتعاداً عن التركيز التقليدي على منطقة المتوسط وأوروبا، وتوجهاً نحو مناطق جديدة ذات أهمية جيوسياسية واقتصادية متزايدة.
هذا التنوع في العلاقات يمنح إيطاليا نفوذاً أكبر على الساحة الدولية، ويُمكنها من تحقيق مصالحها الوطنية بشكل أكثر فعالية في عالم متعدد الأقطاب.
كما تُرسل هذه الزيارة رسالة واضحة بأن إيطاليا، بقيادة ميلوني، تسعى لتكون لاعباً رئيسياً في تشكيل النظام العالمي الجديد، وليس مجرد تابع.