صمت باريس وقلق العواصم: تصاعد المظاهرات في ليبيا يضع المجتمع الدولي أمام اختبار غامض
طرابلس، ليبيا – في شوارع العاصمة الليبية، حيث تتردد أصداء دعوات التغيير، تشهد طرابلس هذه الأيام تصاعداً في وتيرة المظاهرات الشعبية.
مشهدٌ يُعيد إلى الأذهان سنوات من التقلبات، ويضع الحكومة والمؤسسات الليبية على المحك، بينما يراقب المجتمع الدولي المشهد بعيون حذرة، وتحديداً فرنسا، التي وإن كانت تُعلن قلقها، إلا أن موقفها الرسمي لا يزال يكتنفه بعض الغموض بشأن مطالب المتظاهرين ومستقبل الوضع السياسي الراهن.
سلسلة أحداث متسارعة: عندما تخرج الأصوات إلى الشارع
بدأ تصاعد التوتر يلقي بظلاله على ليبيا منذ منتصف مايو 2025، في سلسلة من الأحداث المتسارعة التي كشفت عن غليان تحت السطح.
في الرابع عشر من مايو، كانت الإشارة الأولى التي تؤكد خطورة الوضع.
بيانٌ مشترك صدر عن سفارات الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وإيطاليا، وألمانيا، وفرنسا، أعرب عن “قلقها العميق إزاء أعمال العنف الأخيرة في طرابلس”. دعت هذه القوى الدولية السلطات الليبية إلى “اتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية المدنيين” و”استعادة الهدوء فوراً”.
ورغم ترحيبها بالتقارير التي تحدثت عن اتفاق الأطراف على وقف لإطلاق النار، إلا أنها شددت على ضرورة “احترامه بالكامل ودون قيد أو شرط”.
كان هذا البيان بمثابة جرس إنذار، يشير إلى أن ما يحدث في طرابلس ليس مجرد اضطراب عابر.
بعدها بيوم واحد، في الخامس عشر من مايو، دخلت فرنسا على الخط بشكل مباشر.
تحدث المبعوث الخاص الفرنسي، بول سولير، هاتفياً مع رئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي.
بيان الإليزيه أكد “تضامن فرنسا مع أهالي طرابلس والشعب الليبي في هذا الوقت العصيب”، وربط هذا التضامن بـ “إنجاح العملية السياسية دعماً لوحدة البلاد واستقرارها وسيادتها”.
كانت الكلمات حذرة، لكنها تحمل في طياتها قلقاً من تدهور قد يؤثر على المسار السياسي بأكمله.
بحلول الثامن عشر من مايو، تصاعدت وتيرة القلق الدولي. أعربت فرنسا، إلى جانب مجلس الأمن الدولي، عن “قلقها العميق إزاء تصاعد العنف في طرابلس”، مؤكدة من جديد على ضرورة “احترام وقف إطلاق النار وحماية المدنيين”.
وفي إشارة واضحة إلى تعقيد الوضع، شددت باريس على دعمها الكامل لجهود الممثلة الخاصة للأمم المتحدة، هانا تيتيه، وأكدت على “الحاجة الملحة لإعادة إطلاق العملية السياسية”.
بدا واضحاً أن العنف أصبح يهدد صميم أي جهود نحو حل سياسي.
في العشرين من مايو، جاء بيان أكثر شمولية من بعثة الاتحاد الأوروبي والبعثات الدبلوماسية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في ليبيا.
رحب البيان بـ “إصدار الملخص التنفيذي لتقرير اللجنة الاستشارية”، ودعا جميع الأطراف إلى “وقف التصعيد، وحماية المدنيين، والانخراط في الحوار الذي تيسره بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL)”.
هذا التوسع في الدعوة يشير إلى إدراك بضرورة تدخل أوسع ودفع نحو حل شامل.
موقف فرنسا: بين الحق المشروع والغموض الدبلوماسي
اليوم، الرابع والعشرين من مايو، وبعد أيام من التطورات المتلاحلة، جاء الموقف الفرنسي الأخير، والذي يعكس نظرة باريس المتأنية والمحايدة إلى حد كبير تجاه الأزمة.
ذكّرت السفارة الفرنسية بـ “حق المواطنين في التظاهر السلمي وبمسؤولية السلطات في ضمان سلامة المتظاهرين”.
هذه الكلمات، وإن كانت تبدو عامة، إلا أنها تحمل رسالة قوية بضرورة احترام الحقوق الأساسية للشعب الليبي.
وأضاف البيان الفرنسي: “يجب حماية المدنيين، وتجنب أي تصعيد واحترام وقف إطلاق النار من قبل جميع الأطراف”.
ولكن، رغم هذا التأكيد على الحقوق وضرورة التهدئة، تظل هناك نقاط تثير التساؤل والغموض في الموقف الفرنسي وبقية الدول الكبرى:
صمتٌ حول مطالب المتظاهرين: لم تُصرح فرنسا، أو البيانات المشتركة الأخرى، بشكل صريح عن موقفها من المطالب المحددة للمتظاهرين.
هل هي مطالب سياسية؟ اقتصادية؟ تتعلق بمسار العملية الانتقالية؟ هذا الصمت يُلقي بظلال من عدم اليقين حول مدى فهم المجتمع الدولي لعمق الأزمة الشعبية، أو ربما يُعكس تجنباً للانحياز لطرف على حساب آخر.
غموض موقف الحكومة: لم تتناول البيانات بشكل مباشر وعلني الوضع الراهن للحكومة الليبية أو باقي المؤسسات، وكأنها تركت الأمر للداخل الليبي، مع التركيز فقط على الجوانب الأمنية والإنسانية والحاجة للعملية السياسية.
هذا التحفظ قد يُفسر على أنه محاولة لعدم التدخل في الشؤون الداخلية، أو ربما يُعكس عدم وجود رؤية واضحة للمرحلة التالية.
دعوات عامة وحلول معلقة: على الرغم من دعوات “وقف التصعيد” و”إعادة إطلاق العملية السياسية” و”الحوار”، فإن الآليات العملية لتحقيق ذلك تظل معلقة، أو لم تُعلن عنها بوضوح.
هل هذه الدعوات كافية لتهدئة شوارع طرابلس وإعادة مسار سياسي متعثر إلى طريقه؟
إن هذا الموقف الدبلوماسي، الذي يركز على الحقوق الأساسية ووقف العنف مع الحفاظ على الحياد الظاهري تجاه تفاصيل الأزمة الداخلية، يعكس حذر الدول الكبرى من الغوص في مستنقع ليبي آخر.
فبينما تتصاعد أصوات الغضب في الشارع الليبي، تظل العواصم الكبرى، وباريس على رأسها، تُراقب المشهد بقلق، وتُصدر بيانات تُعرب عن الأمل، لكنها لا تُقدم بعد إجابات واضحة لأسئلة الملايين في طرابلس حول مستقبلهم.