ألمانيا وإيطاليا تعيدان رسم خارطة الهجرة الأوروبية: ليبيا على مفترق طرق استراتيجي

في تطور مفصلي يُعيد تشكيل مستقبل سياسات الهجرة الأوروبية، التقى المستشار الألماني الجديد، فريدريش ميرتس، رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، في روما لبحث خطط مثيرة للجدل: إنشاء مراكز لإعادة المهاجرين إلى “دول ثالثة

أكدت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، أن حكومتها بصدد إعداد رسالة تهدف إلى التساؤل عن مدى قدرة القانون الأوروبي واتفاقيات حقوق الإنسان على مواكبة تحديات “الهجرة غير النظامية الحديثة

هذه الخطوة، التي تأتي مدعومة بمقترح من المفوضية الأوروبية لتعديل قانون اللجوء للسماح بترحيل طالبي اللجوء المرفوضين إلى دول لا تربطهم بها أي صلة مباشرة، تعكس تحولاً جذرياً في نهج أوروبا تجاه الهجرة، وتضع ليبيا في قلب عاصفة جيوسياسية واقتصادية وأمنية وإنسانية.

استقبلت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، يوم 17 مايو/أيار 2025 المسيحي، بحفاوة كبيرة خلال زيارته الأولى لإيطاليا منذ توليه المنصب.

الرسالة المشتركة بين ميلوني وميرتس، وقبلهما دعوة تسع دول أوروبية لمراجعة تفسير الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، تُشير إلى توافق متزايد داخل أوروبا على تشديد سياسات الهجرة والتركيز على عمليات الإعادة والحد من أعداد الوافدين. هذا التوجه، الذي يعكس تزايد المشاعر المناهضة للهجرة منذ أزمة 2015 وصعود الأحزاب اليمينية، يُثير مخاوف عميقة لدى منظمات حقوق الإنسان التي ترى فيه تقويضاً لحق اللجوء وزيادة لخطر الإعادة القسرية والاحتجاز التعسفي.

الأهمية الاستراتيجية للتوجه الأوروبي الجديد

هذا التحول في السياسة الأوروبية له أهمية استراتيجية بالغة على عدة مستويات:

أكد الزعيمان، المستشار الألماني فريدريش ميرز ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ، على عمق العلاقات بين بلديهما، لا سيما في مجال سياسة الهجرة.

1-إعادة تعريف اللجوء: يمثل المقترح الأوروبي إلغاء شرط “الصلة” بين طالب اللجوء والدولة الثالثة الآمنة، مما يعني أن أي دولة تُصنف “آمنة” يمكن أن تستقبل المهاجرين، حتى لو لم تكن بلدهم الأصلي أو لم يمروا بها.

هذا يُغير جذرياً مفهوم اللجوء ويُحمل الدول الثالثة أعباءً إضافية.

صورة أرشيفية توضيحية: تظهر فرونتكس وهي تدعم شرطة الحدود والضرائب الإيطالية وخفر السواحل في دوريات على الحدود الخارجية لإيطاليا وأوروبا مع دول شمال أفريقيا المطلة على البحر الأبيض المتوسط

2-ضغط على الدول الحدودية: ألمانيا وإيطاليا، باعتبارهما من أكبر الدول المستقبلة للمهاجرين، تسعيان لتخفيف الضغط على أنظمتهما.

هذا يعني نقل جزء من هذا الضغط إلى الدول الواقعة على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي أو الدول الثالثة.

مركز جادر لإعادة اللاجئين في ألبانيا

3-تأثير الدبلوماسية اليمينية: التوافق بين ميلوني (يمينية) وميرتس (محافظ) يعكس صعود تيار سياسي أوروبي يدعم سياسات هجرة أكثر صرامة، مما يُشير إلى أن هذا التوجه قد يُصبح سائداً في الاتحاد الأوروبي.

4-تعزيز أمن الحدود الخارجية: ألمانيا تُصر على أن “حدود إيطاليا البحرية هي حدود ألمانيا أيضاً”، مما يعني التزام برلين بدعم الدول المطلة على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، لكن هذا الدعم سيُركز بشكل أكبر على منع الهجرة وليس على استقبالها.

انعكاسات هذه الاتفاقية على ليبيا: تحديات وفرص

تُعد ليبيا، بموقعها الجيوسياسي الفريد كبوابة رئيسية للمهاجرين إلى أوروبا، هي الطرف الأكثر تأثرًا بهذه التوجهات الأوروبية.

إنها على مفترق طرق يتطلب رؤية استراتيجية عاجلة.

1-جيوسياسياً

. تزايد الأهمية الجيوسياسية: ستُصبح ليبيا لاعباً رئيسياً في المعادلة الأوروبية للهجرة. موقعها كنقطة عبور محورية سيُعزز من أهميتها في أي مفاوضات أو اتفاقيات أوروبية مستقبلية، مما يمنحها نفوذاً أكبر.

. ضغوط للتنسيق: ستُمارس الدول الأوروبية ضغوطًا متزايدة على ليبيا لتنسيق الجهود في مكافحة الهجرة غير النظامية، مما قد يؤدي إلى مزيد من التدخلات أو الشراكات الأوروبية في الشؤون الليبية.

. ليبيا “دولة طرف ثالث”؟: مع سعي ألمانيا لدراسة إمكانية إنشاء مراكز لإعادة المهاجرين خارج أراضيها، وتجربة إيطاليا مع ألبانيا، قد تُصبح ليبيا هدفاً محتملاً لاستضافة مثل هذه المراكز، مما يتطلب من السلطات الليبية موقفاً واضحاً وحازماً.

2-اقتصادياً:

. أعباء مالية هائلة: ترحيل أعداد أكبر من المهاجرين إلى ليبيا، أو تزايد أعداد العالقين فيها، سيُشكل عبئاً اقتصادياً ضخماً. تكلفة الإيواء، الغذاء، الرعاية الصحية، والبنية التحتية اللازمة ستكون باهظة لدولة تُعاني من تحديات اقتصادية.

. فرص التمويل والدعم: يمكن لليبيا أن تستغل هذا الوضع للمطالبة بتمويل أوروبي كبير ومشاريع تنموية في مقابل التعاون في ملف الهجرة.

هذا التمويل يجب أن يُستخدم في تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للسكان المحليين والمهاجرين.

. تنويع الشراكات: يجب على ليبيا أن تسعى لتنويع شركائها الاقتصاديين وعدم الاقتصار على أوروبا، لضمان عدم تعرضها للضغط أو الابتزاز بسبب ملف الهجرة.

3-أمنياً:

. تفاقم تحديات الحدود: زيادة أعداد المهاجرين العالقين في ليبيا قد تؤدي إلى تفاقم الأوضاع الأمنية على الحدود وفي المدن، وتُساهم في نمو الجريمة المنظمة وشبكات التهريب.

. بناء القدرات الأمنية: ستحتاج ليبيا بشكل عاجل إلى دعم في بناء قدرات خفر السواحل وحرس الحدود، وتدريبهم على التعامل مع ملف الهجرة وفقاً للمعايير الدولية، مع توفير المعدات اللازمة.

. المخاوف من عدم الاستقرار: أي تفاقم لأزمة الهجرة في ليبيا قد يُعيق جهود الاستقرار الجارية، ويُغذي الصراعات الداخلية، مما يُصبح مصدر قلق لأوروبا نفسها.

4-إنسانياً:

. تفاقم الأوضاع في مراكز الاحتجاز: مع تزايد أعداد المرحلين أو العالقين، قد تزداد الأوضاع سوءًا في مراكز الاحتجاز الليبية، مما يُعرض المهاجرين لانتهاكات حقوق الإنسان التي لطالما انتقدتها المنظمات الدولية.

. مسؤولية أخلاقية: يقع على عاتق المجتمع الدولي، وأوروبا بشكل خاص، مسؤولية أخلاقية لضمان حماية المهاجرين في ليبيا وتقديم الدعم الإنساني اللازم لهم، وتجنب تحويل ليبيا إلى “سجن كبير” للمهاجرين.

هل تهم هذه الاتفاقية ليبيا؟ ولماذا يجب أن تسرع في التواصل مع الدول الفاعلة؟

بالتأكيد، تهم هذه الاتفاقية ليبيا وبشدة. إنها ليست مجرد قضية أوروبية داخلية، بل هي صميم علاقة ليبيا بأحد أهم شركائها الجغرافيين والاقتصاديين. تجاهل هذه التوجهات الأوروبية سيعني أن ليبيا ستُصبح مجرد متلقٍ للقرارات، بدلاً من أن تكون شريكاً فاعلاً.

يجب على السلطات الليبية، بكل أطيافها، أن تُسرع في التواصل مع الدول الأوروبية الفاعلة (ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، إسبانيا، وغيرها) والمؤسسات الأوروبية (المفوضية، البرلمان الأوروبي) لتقديم رؤيتها حول الهجرة، وذلك للأسباب التالية:

1-الدفاع عن المصالح الوطنية: يجب على ليبيا أن تُقدم رؤية واضحة تُدافع فيها عن مصالحها الأمنية والاقتصادية والإنسانية، وتُوضح أنها لا يمكن أن تكون مجرد “مخزن” للمهاجرين.

2-ضمان احترام حقوق الإنسان: يجب على ليبيا أن تُقدم رؤية تضمن فيها احترام حقوق الإنسان للمهاجرين على أراضيها، وتُطالب بالدعم اللازم لتحقيق ذلك.

3-التفاوض على شروط أفضل: يجب على ليبيا أن تتفاوض على أي اتفاقيات مستقبلية مع أوروبا من موقع القوة، مستغلة موقعها الجيوسياسي.

هذه المفاوضات يجب أن تشمل تمويلاً كافياً، ودعماً تقنياً، ومشاريع تنموية، وفرصاً للهجرة الشرعية.

4-تجنب العزلة والضغط: عدم الانخراط في هذا النقاش الأوروبي سيُعرض ليبيا للعزلة والمزيد من الضغوط، وقد تُفرض عليها شروط لا تتناسب مع مصالحها.

5-المبادرة بدلاً من رد الفعل: من الأفضل لليبيا أن تُبادر بتقديم حلول ومقترحات، بدلاً من أن تكون مجرد رد فعل على السياسات الأوروبية التي قد تُفرض عليها.

إن مصير آلاف المهاجرين، واستقرار ليبيا في المستقبل، يعتمدان إلى حد كبير على مدى حكمة وجرأة الاستجابة الليبية لهذه التغيرات الجوهرية في سياسات الهجرة الأوروبية.

المزيد من الكاتب

صمت باريس وقلق العواصم: تصاعد المظاهرات في ليبيا يضع المجتمع الدولي أمام اختبار غامض

موناكو تتوهج بانتصار نوريس “الحلمي”: صراع اللقب يشتعل في الفورمولا 1!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *