الإنذار السوفيتي الليبي: حين يبلغ السيل الزبى ويئن الشعب في وجه الوصاية

جنزور، ليبيا – 23 مايو 2025 – تحت سماء ليبيا المتربة، وعلى بعد خطوات من بوابة الأمم المتحدة في جنزور، انفجرت حناجر المئات من الليبيين الغاضبين في مشهد تكرر للجمعة الثانية على التوالي.

لم يكن هذا مجرد احتجاج عابر، بل كان صرخة مدوية، تتصاعد من عمق المعاناة، وتُردد صداها في أرجاء وطن مزقه الصراع، لتنادي بإسقاط حكومة لا تراها تمثلها، وتُوجه “إنذاراً سوفيتياً” جدياً لبعثة أممية باتت في نظرهم جزءاً من المشكلة لا الحل.

صرخة من جنزور: حين يشتعل الغضب وتتوهج الكرامة

كان في طليعة المتظاهرين أحد أعيان المنطقة الغربية، ووجهه يشتعل غضباً وحرقة، وصوته يرتفع كالسيل الهادر، مزقت كلماته هدوء المكان: “لقد أتينا اليوم حقيقةً، وقد أتينا في السابق أكثر من مرة للتنديد بما يحدث الآن في بلادنا ليبيا، نحن غير راضين على أداء بعثة الأمم المتحدة، غير راضين مطلقاً، ونحن نحملكم المسؤولية الكاملة فيما يحدث الآن في ليبيا.

تصاعدت نبرة صوته وهو يلوح بيده في إشارة قاطعة إلى الجرح النازف في ليبيا: “الدماء التي تسيل الآن في ليبيا، أنتم مسؤولون عليها.

أنتم في عام 2011 جئتم من أجل إرساء الديمقراطية في ليبيا.

الآن أين الديمقراطية التي وعدتم بها؟

أين هي الآن؟

لا توجد ديمقراطية على أرض الواقع الحالي المرير.

فمنذ عام 2011 ولهذه الساعة التي أتحدث فيها، ونحن في الدماء وخراب ليبيا ودمارها، وأنتم مسؤولون على كل ذلك.”

لم تكن الكلمات مجرد خطاب، بل كانت تعبيراً حياً عن غضب مكبوت.

ارتفع صوته أكثر، وهو يصرخ: “أنتم بعثة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي مسؤولون على ما يحدث في ليبيا، وما حدث في طرابلس من إطلاق نار على المتظاهرين وما نتج عنه من تأزم في الوضع… أنتم مسؤولون عليه، لأنكم لم تستجيبوا لنا أبداً، حتى المخرجات الأخيرة، متى أتت؟ لقد أتت بعد أن قررنا أن نزحف عليكم.

وكأن تهديداً صريحاً قد خرج من بين شفاهه، مؤكداً أن صبر الليبيين قد بلغ منتهاه: “الآن نحن لا نريد أحداً، سنزحف عليكم جميعاً!

“حقيقةً ولقد ببلغ السيل الزبى، لقد بلغ السيل الزبى، وبلغ الصبر مداه.

اليوم أتينا نمثل نخبة من هذه القبائل… غداً ممكن تأتي الملايين!” بهذا التحذير، رسم المتحدث صورة لمستقبل قريب قد يشهد انفجاراً شعبياً أوسع نطاقًا.

وأوضح أن المظاهرة كانت مقسمة، فمجموعة توجهت إلى ميدان الشهداء بطرابلس، بينما المجموعة الأخرى، التي ينتمي إليها، جاءت إلى هنا، إلى مبنى الأمم المتحدة.

“أحنا الآن جئنا سلمياً… لكن الذي يحدث لا يرضي أحد، هل أنتم كمجتمع أممي دولي وإنساني راضون على ما يحدث في ليبيا؟”

سؤال وجهه المتحدث مباشرة إلى البعثة، ملقياً الكرة في ملعبهم، “أنتم مسؤولون عليه… لقد تأخرتم… تأخرتم جداً في إيجاد الحل فنحن نحملكم المسؤولية.”

كان المتظاهرون قد ضغطوا وهددوا بالاعتصام أمام المبنى، مما دفع ممثلاً عن البعثة للخروج والاستماع، حينها، أعلن المتحدث عن الحلين اللذين لا ثالث لهما، مطالباً بإبلاغهما إلى السيدة “حنا تيتيه” رئيسة البعثة الأممية في ليبيا: “إما حل فوري لما يحدث في ليبيا أو عليكم أن ترحلوا!” وبلجة غير اعتيادية وغاضبة أضاف: “نحن لن نصمت.” في تلك اللحظة، تعالت أصوات المتظاهرين وتفاعلت بقوة مع المتحدث، مرددين: “لا للبعثة الأممية في ليبيا!

“نحن بعد الآن أبداً لن نصمت وقد بلغ الصبر مداه، خلاص انتهى… لا يُعقل أن الدم الليبي يسيل كل يوم في الشوارع، ولا يُعقل أتيتم بالمرتزقة على مرأى أعينكم، أصبحت ليبيا عبارة عن قمامة للمرتزقة الأجانب!” هذا الوصف الصادم ألهب مشاعر المتظاهرين مرة أخرى، فتعالت أصواتهم مجدداً بهتافات “لا للبعثة الأممية في ليبيا!

بعد أن هدأت الهتافات قليلاً، استمر المتحدث، كاشفاً عن جرح آخر يؤلم الليبيين: “إن ما نسمعه كل يوم وما يحدث الآن في ليبيا من توطين للمهجرين في ليبيا، هؤلاء يجب أن يكونوا في أوروبا وليس في بلدنا ليبيا.

لقد قمتم بتوطينهم في ليبيا… لم تضعوا حتى حلولاً للهجرة، ترغبون بأن تأتونا بقمامة أوروبا وأمريكا إلى ليبيا.

أبداً لا يرضي أحد هذا.” وبأسف وغضب، أشار إلى التدهور الاقتصادي: “ليبيا التي كانت من الدول الاقتصادية الكبيرة جداً ولديها دينار ليبي قوي، انظروا الآن أصبح في أسوأ حالاته، هذا على مرأى من مسامعكم… أنتم جئتم لتضعوا الحل… لكن وجدنا أنتم أكبر مشكلة عندنا.”

واختتم المتحدث كلماته، التي كانت أشبه ببيان نهائي: “هذه رسالتنا إليكم اليوم… إنها رسالتنا السلمية الآن، أكررها لآخر مرة: إما وجود حلول فورية وجذرية أو رحيلكم غير مأسوف عليكم… أكرر غير مأسوف عليكم. هذه رسالة النخبة من كل القبائل الليبية.”

ولم تكن هذه الصرخة مقتصرة على الرجال، فقد تعالت هتافات وصرخات النساء من بين المتظاهرين، لتخرج عن صمتها، مؤكدة أن المرأة الليبية تعاني أيضاً.

صرخت إمرأة بصوت عالٍ: “إما الحل أو الرحيل! نستطيع أن نحل مشاكلنا بدونكم.

مما يوضح مدى الغضب والسخط الشعبي من مواقف الأمم المتحدة، وأن البعثة الأممية باتت في مواجهة الشعب الليبي بشكل مباشر، وتتحدث مع كيانات ليس لها دعم شعبي.

فجأة، خرج عن صمته أحد أكبر أعيان ووجهاء المنطقة الغربية وأحد المسؤولين على المصالحة الوطنية، الحاج سعد المختار من مدينة العجيلات.

في مستهل حديثه، أكد ما أدلى به زميله في هذا الحراك الشعبي، وهو يصرخ وتبدو عليه علامات الغضب الشديد. بلهجة حادة قال: “اسمعوني! اليوم أتتكم لجنة من المنطقة الغربية طالبين الحل الفوري ومنحتكم خيارين: إما على البعثة أن ترحل علينا وتترك ليبيا لليبيين، ونحن عندما نجلس كليبيين مستعدون أن نحل مشاكلنا كلها.

وبنبرة غضب شديد، وجه الاتهام مباشرة للقرارات الدولية: “لقد أتيتم لنا بقرار جائر، القرار رقم 1970 و1973 والذي وضعتمونا به تحت الوصايا الدولية، والوصايا الدولية هي من جلبت لنا المرتزقة وهي من جلبت لنا الاستعمار وهي من جعلتنا في الحرب، وهي من دعمت المليشيات المسلحة لكي يتقاتلوا في بعضهم البعض

من الذي قام بكل ذلك؟

أؤكد لكم أيها الإخوة أن من جلبهم هي بعثة الأمم المتحدة، هي المسؤولة على حكومات فاشلة.

اتركونا في حالنا!” هنا صرخ أحد المتظاهرين بصوت عالٍ: “أحفاد المجاهدين لن يتركوا ليبيا!

احتقن الوضع فجأة، وتعالت الأصوات والهتافات بغضب غير مسبوق: “ارحلوا علينا! اتركوا ليبيا لليبيين! اتركونا في حالنا!” بعد عودة الهدوء، أكمل حديثه بحرقة: “يا سادة اتركوا ليبيا، يا سادة ارحلوا علينا!” هنا ارتفعت أصوات النساء مرة أخرى، مطالبات بالاستقرار والحرية والأمان، مؤكدات: “نحن قادرون لو تتركونا.” استمر المتحدث: “نحن مستعدون لتكوين حكومة منا (في إشارة إلى فشل البعثة في تكوينها بشكل وطني محايد)، ومستعدون لإقامة انتخابات حرة ونزيهة دون إقصاء أو تهميش (في إشارة أخرى إلى فشل بعثة الأمم المتحدة في إجرائها وخاصة عبر حكومة الوحدة الوطنية).” وارتفع صوته قائلاً: “ارفعوا أيديكم عنا، لقد تركتونا في أسفل السافلين!” (في إشارة إلى الوضع المعيشي والإنساني السيئ الذي وصلت له ليبيا). هنا تعالت أصوات المتظاهرين مجدداً: “ارحلوا… ارحلوا عنا!

البيان الصادم: “بلغ السيل الزبى… والوصايا إلى زوال

بعد أن فاض الكيل وصمت الأعين عن رؤية الدماء تنزف على أرض الوطن، لم يعد الشعب الليبي قادراً على كتم غضبه.

فبينما كانت حناجر الرجال والنساء تهتف “ارحلوا عنا!” أمام مبنى الأمم المتحدة بجنزور، كان نص البيان الصادر عن المتظاهرين يتردد صداه في كل أرجاء ليبيا، حاملاً معه رسالة واضحة وصارمة.

لم يكن هذا البيان مجرد كلمات، بل كان إعلاناً عن نفاد الصبر، ورفضاً قاطعاً للوصاية الدولية، وصرخة من شعب يرى أن مصيره قد أصبح رهينة لأجندات لا تخدم مصلحته.

نص البيان:

إلى أبناء الشعب الليبي العظيم

لقد بلغ السيل الزبى، ولم يعد الصمت ممكناً فبعد سنوات من العبث الدولي والتدخلات الأجنبية بات واضحًا للجميع، أن بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، لم تكن يوماً جزءًا من الحل، بل أصبحت أداة من أدوات تأزيم الوضع وإطالة عمر الأزمة.

لقد انحرفت البعثة عن مهمتها وافتقرت للحياد منذ انطلاق أعمالها وتحولت إلى غرفة عمليات تدير الصراع وفق أجندات دولية لا علاقة لها بمصلحة ليبيا، ولا استقرارها من الصخيرات إلى بوزنيقة، ومن روما إلى أبوظبي وبرلين وباريس.

أثبتت كل مسارات الحوار التي رعتها أنها مجرد محطات فاشلة، كرست الانقسام وأهدرت الوقت، وضربت بإرادة الليبيين عرض الحائط.

لقد أصبحت البعثة تنتج مقترحات شكلية داخل غرف مغلقة، ثم تحاول فرضها كمشاريع توافق دون أي أساس قانوني أو شرعي.

وآخر هذه المحاولات ما يسمى بالمقترح الاستشاري الذي جاء في توقيت مكشوف لسحب البساط من تحت الجهود الليبية الجادة لتسمية رئيس حكومي وطني يوحد المؤسسات ويقود البلاد نحو انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة.

إن القوة الوطنية الليبية تعلن ما يلي:

أولًا: المطالبة برحيل بعثة الأمم المتحدة فوراً من ليبيا، بعد أن تحولت إلى عبء ثقيل وعقبة مباشرة أمام استقرار البلاد.

ثانياً: تحميل البعثة الأممية المسؤولية الكاملة عن الأضرار السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لحقت بالشعب الليبي والمطالبة باعتذار رسمي وواضح للمؤسسات الشرعية وللشعب الليبي.

ثالثاً: رفض كل المخرجات والمبادرات التي تحاول البعثة تمريرها، تحت مسميات استشارية أو توافقية، وهي في الحقيقة أدوات في تمديد الأزمة وضرب الإرادة الوطنية.

رابعاً: دعم أي خطوة ليبية لتسمية رئيس حكومة باعتبارها تحركاً وطنياً جاداً منذ سنوات نحو توحيد السلطة التنفيذية دون وصايا أو تدخل خارجي ما قام به مجلس النواب.

خامساً: الدعوة إلى مليونية شعبية خلال أسبوعين من هذا البيان لطرد سفارات الدول المتورطة في العبث بالملف الليبي، واستعادة القرار الوطني وإنهاء الوصايا.

سادساً: نمهل بعثة الأمم المتحدة 21 يوماً من تاريخ هذا البيان لتقديم اعتذار رسمي إلى الشعب الليبي ومؤسساته المنتخبة ممثلة في مجالس النواب والدولة والرئاسي الذين نالوا شرعيتهم من صناديق الاقتراع بغض النظر عن الملاحظات عليهم.

وأن أي محاولة للنيل من شرعيتهم هي استهانة بإرادة الليبيين، وكل مسؤول ليبي يجتمع مع البعثة أو يتواصل معها، قبل تقديم هذا الاعتذار، هو في حقيقة الأمر يخون شعبه، ويمتهن كرامته ويتواطأ مع من أهان الوطن، واستباح قراره.

إن هذا البيان يعبر عن موقف وطني لا يعرف الخضوع، ولا يقبل الإملاءات ولا يعترف إلا بإرادة الليبيين. ليبيا ستعود لأهلها والوصايا إلى زوال وسيحاسب كل من شارك في إدامة الفوضى والتدخل الخارجي.

حفظ الله ليبيا ..الله أكبر .. الله أكبر”

تحليل معمق: لماذا الغضب من البعثة؟

يبدأ البيان بخطاب مباشر ومؤثر، موجهاً إلى “أبناء الشعب الليبي العظيم”، معلناً أن “بلغ السيل الزبى، ولم يعد الصمت ممكناً”. هذا الافتتاح ليس مجرد عبارة بلاغية، بل هو تأكيد على أن هذا الحراك ليس وليد اللحظة، بل هو تتويج لسنوات من المعاناة والإحباط.

يشير البيان صراحة إلى “العبث الدولي والتدخلات الأجنبية”، ويؤكد أن “بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، لم تكن يوماً جزءاً من الحل، بل أصبحت أداة من أدوات تأزيم الوضع وإطالة عمر الأزمة”.

هذا الاتهام الصريح يعكس قناعة المتظاهرين بأن البعثة قد انحرفت عن مسارها الأصلي، وهو ما يفسر هذا الانفجار الشعبي.

يُسلط البيان الضوء على انحراف البعثة عن مهمتها الأساسية، وفقدانها للحياد منذ انطلاق أعمالها، وتحولها إلى “غرفة عمليات تدير الصراع وفق أجندات دولية لا علاقة لها بمصلحة ليبيا، ولا استقرارها”.

هذه النقطة محورية في فهم غضب الشارع، فالشعب يشعر بأن البعثة، بدلاً من أن تكون وسيطاً نزيهاً، أصبحت لاعباً رئيسياً يساهم في تعقيد المشهد الليبي.

المسارات الدبلوماسية التي رعتها البعثة، من الصخيرات إلى بوزنيقة، ومن روما إلى أبوظبي وبرلين وباريس، وصفت جميعها بأنها “محطات فاشلة، كرست الانقسام وأهدرت الوقت، وضربت بإرادة الليبيين عرض الحائط”.

هذا يوضح أن المتظاهرين يرون أن البعثة لم تفشل فقط في تحقيق أهدافها، بل ساهمت في تعميق الأزمة وتجاهلت صوت الشعب.

كما ينتقد البيان البعثة لتوليدها “مقترحات شكلية داخل غرف مغلقة، ثم تحاول فرضها كمشاريع توافق دون أي أساس قانوني أو شرعي”.

هذا الاتهام يعكس شعوراً عميقاً بالإقصاء والتهميش، وأن الحلول المقترحة لا تنبع من الواقع الليبي ولا تحظى بتأييد شعبي. “المقترح الاستشاري” الأخير، الذي جاء “في توقيت مكشوف لسحب البساط من تحت الجهود الليبية الجادة لتسمية رئيس حكومي وطني يوحد المؤسسات ويقود البلاد نحو انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة”، يُنظر إليه كدليل آخر على أن البعثة تعمل ضد الإرادة الوطنية.

قصة “الإنذار السوفيتي”: جذور رمزية الغضب الليبي

في عمق الذاكرة الشعبية الليبية، حين يشتد الغضب وتُستنفد كل السبل، يُقال: “هذا إنذار سوفيتي!” ليس مجرد تعبير عامي، بل هو صدى لتاريخ من التحدي والكرامة، لقصة تعود إلى عام 1956، حينما وقف الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر في وجه القوى العظمى، وأطلق شرارة التأميم ورفض الوصاية.

إن ربط الليبيين غضبهم الراهن بـ”الإنذار السوفيتي” ليس ترفاً بلاغياً، بل هو دلالة عميقة على حجم اليأس من الحلول الدولية، ورغبة عارمة في استعادة السيادة الوطنية.

تعود بداية قصة هذا “الإنذار” إلى العام 1955؛ عندما سعى الرئيس المصري جمال عبد الناصر لبناء السد العالي، مشروعاً طموحاً لتحقيق طفرة زراعية في مصر.

تعهدت بريطانيا وأمريكا في يناير 1956 بالمساعدة في تمويله، بالإضافة إلى قرض من البنك الدولي.

لكن الصورة تغيرت سريعاً، عندما تراجع رئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن عن تعهده بتزويد مصر بالأسلحة، لم يتردد عبد الناصر في شراء طائرات ودبابات وأسلحة سوفيتية الصنع، ما أثار حفيظة الغرب.

في 19 يوليو 1956، أبلغ وزير الخارجية الأمريكي “جون فوستر دالاس” السفير المصري بقرار حكومته عدم المساهمة في تمويل السد العالي، تبعته بريطانيا والبنك الدولي.

كان رد فعل عبد الناصر حاسماً ومدوياً: تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956.

امتلكت بريطانيا حينها 44% من أسهم الشركة العالمية لقناة السويس، وتولت إدارتها مع شركائها الفرنسيين، كان غضبهما كبيراً: كيف يتجرأ رئيس دولة من العالم الثالث على تحديهم، وهم “سيدتا العالم الحر وحاميتا حمى الديموقراطية”؟

تفتقت عقولهم على مؤامرة، بمساندة شريك ثالث أكثر شراً وجشعاً: إسرائيل.

في 22 أكتوبر 1956، اجتمع رئيس وزراء إسرائيل بن غوريون مع وزيري الخارجية والدفاع الفرنسيين، ووزير الخارجية البريطاني سلوين لويد، في ضاحية سفر بباريس.

انبثق عن هذا الاجتماع بروتوكول سفر، حيث تم الاتفاق على أن تهاجم إسرائيل مصر، ثم تقوم فرنسا وبريطانيا باحتلال منطقة قناة السويس بحجة حماية القناة والفصل بين الأطراف المتحاربة، كانت مكافأة إسرائيل نظير ذلك ضم صحراء سيناء.

في 29 أكتوبر 1956، بدأت إسرائيل هجومها على مصر، في اليوم التالي، أصدرت فرنسا وبريطانيا إنذاراً للمتحاربين لوقف القتال فوراً.

وفي 5 نوفمبر، بدأت الدولتان هجومهما بقصف جوي على القوات الجوية المصرية، تبعته عمليات إنزال في بورسعيد وبورفؤاد، واجهت هذه القوات “مقاومة أسطورية” بشكل خاص في بورسعيد.

أعلن بن غوريون حينها أمام الكنيست أن “الجيش الإسرائيلي غزا سيناء، والتي كانت جزءاً من مملكة سليمان التي امتدت من جزيرة تيران في البحر الأحمر إلى تلال لبنان، وأن جزيرة تيران أصبحت مرة أخرى جزءاً من مملكة إسرائيل.” لكن الفرحة لم تتم.

كان للاتحاد السوفيتي رأي آخر، بعث المارشال بولجانين، رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع الروسي، إنذاره الشهير والشديد إلى الدول المعتدية، مهدداً بضربهم بصواريخ تحمل رؤوساً نووية

كذلك صرح رئيس الاتحاد السوفيتي، نيكيتا خروتشوف، دعمه لمصر وأن بلاده ستحارب معها، مهدداً مرة أخرى بقصف البلدان المعتدية، الأمر الذي سيؤدي إلى مواجهة مع أمريكا واندلاع الحرب العالمية الثالثة.

عم الذعر في هذه الدول، بعد منتصف ليلة 5 نوفمبر، طلب سفير إسرائيل في واشنطن أبا إيبان مقابلة وزير خارجية أمريكا وسأله إذا كان الروس يعنون ما يقولون في إنذارهم أم هو مجرد تهديد لن ينفذ. “لا أعلم.. لا أحد يستطيع التنبؤ بما قد يفعلونه؛ قد يكون تهديداً فقط وقد يكون قراراً سيتم تنفيذه،” أجاب الوزير.

خوفاً لا قناعة، انسحبت جميع القوات المعتدية يوم 23 ديسمبر 1956، تجر أذيال الفشل.

كان هذا الحدث بداية لتعريف “الإنذار السوفيتي” في الوعي العربي، كتحذير نهائي لا عودة عنه، يلزم المعتدي بالتراجع أو مواجهة عواقب وخيمة.

الإنذار السوفيتي” في ليبيا اليوم: غضب شعب يرفض الوصاية

في جنزور اليوم، عندما هتف الليبيون “ارحلوا علينا!” ورفعوا بيانهم الذي يمهل البعثة 21 يوماً لتقديم اعتذار أو الرحيل، لم يكن ذلك مجرد احتجاج.

كان إنذاراً سوفيتياً” بلهجة ليبية خالصة،  لم يأتِ هذا الإنذار من قوة عظمى، بل من قوة الشعب الليبي، الذي رأى في بعثة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي استمرارية للوصاية، ومحطات فاشلة، ومؤامرات تديم الأزمة.

كما رفض جمال عبد الناصر الوصاية وتحدى القوى العظمى بتأميم قناة السويس، يرفض الشعب الليبي اليوم وصاية بعثة أممية يرى أنها انحرفت عن مسارها، وتسببت في الدمار والخراب وتوطين المرتزقة.

إن دعوة المتظاهرين إلى “مليونية شعبية خلال أسبوعين لطرد سفارات الدول المتورطة في العبث بالملف الليبي” هي تجسيد حي لروح الإنذار السوفيتي، إنها صرخة: “نحن قادرون على حل مشاكلنا بدونكم!”

الكلمات التي رددها أعيان المنطقة الغربية، الحاج سعد المختار، مؤكداً أن “الوصايا الدولية هي من جلبت لنا المرتزقة وهي من جلبت لنا الاستعمار وهي من جعلتنا في الحرب”، تشير إلى أن الشعب الليبي قد وصل إلى قناعة بأن الحل يجب أن يأتي من داخله، وأن أي تدخل خارجي دون إرادته الحرة هو استعمار بشكل آخر.

إن هذا “الإنذار السوفيتي” الليبي ليس تهديداً لفظياً عابراً، بل هو دعوة للصحوة، وتحذير من انفجار شعبي قد يغير موازين القوى في ليبيا.

هل يستجيب المجتمع الدولي هذه المرة لصرخة الشعب الليبي، أم يدفعه إلى تكرار سيناريوهات تاريخية مؤلمة؟

التاريخ يراقب، والشعب الليبي لن يصمت.

المزيد من الكاتب

نتنياهو يثير الجدل: تشبيه “فلسطين حرة” بتحية “هايل هيتلر” يشعل منصات التواصل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *