طرابلس، ليبيا – يوم الجمعة [تاريخ اليوم]، 17:00 بتوقيت ليبيا (15:00 غرينتش)
في مشهد لم يُشهد له مثيل منذ فترة طويلة، اندفع الآلاف من الليبيين بصوت واحد، للجمعة الثانية على التوالي، مكسرين حاجز الصمت ومؤكدين إصرارهم على تحقيق مطالبهم.
لم يعد ميدان الشهداء في طرابلس مجرد معلم تاريخي، بل تحول اليوم إلى قلب نابض للثورة الشعبية، تحت شعار “جمعة الخلاص والحسم”، في رسالة مدوية للداخل والخارج بأن صبر الشعب الليبي قد نفد.
الميدان ينطق: زحف الحشود من كل حدب وصوب
قبل ساعات من الظهيرة، بدأت شوارع طرابلس تتحول إلى أنهار بشرية، تتجه كلها نحو ميدان الشهداء. من زاوية الدهماني، وباب بن غشير، مروراً بباب الزاوية وباب الحديد، وصولاً إلى الظهرة والمنصورة وسوق الجمعة والفرناج والهضبة وعين زارة وصلاح الدين وقرقارش والسبعة والحي الإسلامي، وحتى ضواحي طرابلس الأبعد كتاجوراء وجنزور وحي الأندلس، والسراج، والغيران، وحي الأكواخ، والفلاح، وأبوسليم، وسيدي السائح، والهاني، وغوط الشعل، والرابطة، والنجيلة، جميعها شهدت توافداً بالآلاف.
لم تقتصر هذه الموجة الشعبية على العاصمة وحدها، بل امتدت لتشمل مدناً أخرى، مثل الزاوية، وغريان، وبني وليد، والجميل، والرجبان، والعجيلات، وقصر بن غشير، وغيرها من المدن الليبية، لتُؤكد أن الغضب يتجاوز الحيز الجغرافي للعاصمة، ويُمثل إرادة شعبية واسعة.
في الأثناء ذاتها، خرجت مظاهرة موازية في مدينة مصراتة، ركزت مطالبها على حل “جهاز الردع”، في إشارة إلى تنوع أسباب السخط الشعبي وتباين أولوياته بين المناطق، لكنها تصب جميعها في خانة المطالبة بالإصلاح.
تحليل المشهد: إن هذا التوافد الهائل، وتنوع مناطق المنشأ، يُشير إلى تجاوز الانقسامات الجغرافية والسياسية الجزئية التي طالما عصفت بالبلاد، نحو هدف وطني أوسع. اختيار ميدان الشهداء، الرمز التاريخي للانتفاضات، ليس عشوائياً، بل هو تأكيد على الاستمرارية الثورية واستلهام من الذاكرة الجماعية الليبية.
جمعة الخلاص": صمت أمني وتبريد لغضب الجماهير

لفت الانتباه أن الأجهزة الأمنية تعاملت مع المظاهرة حتى الآن بأسلوب منظم بشكل جيد، بل وقامت بتوزيع المياه على المتظاهرين.
هذا التعامل الهادئ، وإن كان مؤشراً على درجة من “الاحتواء”، إلا أنه يُشير أيضاً إلى وعي الأجهزة الأمنية بخطورة الموقف الشعبي، أو ربما تأثرها بالدوافع الشعبية التي تقف وراء الاحتجاجات.
هذا التفاعل السلمي يُقدم صورة مغايرة للعديد من سيناريوهات الاحتجاجات في المنطقة، ويُرسل رسالة بأن الحركة تسعى لتحقيق أهدافها عبر الضغط السلمي.
بيان الشعب: مطالب حاسمة لحكومة "الذل والعار"

أصدر المتظاهرون بياناً واضحاً ومُحدداً، يُشكل خارطة طريق لمطالبهم، ويُسلط الضوء على الأسباب الجوهرية لغضبهم:
أسباب الغضب: يُشير البيان إلى أن حكومة الوحدة الوطنية، وعلى رأسها المدعو الدبيبة، قد “ضلت الطريق الصحيح” و”نكتت بالعهود والالتزامات والواجبات باتجاه الشعب الليبي”.
ويُتهم المتظاهرون هذه الحكومة بـ”التخلف عن مهمتها المحددة” في إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ما أدى إلى “تفاقم الأزمات وارتفاع معدلات الفقر وسوء الوضع الأمني”.
الأكثر خطورة، هو الاتهام بأن “شلة فاسدة قد استحوذت على قرارات الدولة”، وأن الحكومة “اتبعت سياسات جهوية وتحصنت بكيانات جهوية، وقسمت الوطن واشترت الذمم”.
المطالب الجوهرية (ثلاثية الخلاص):
1-إسقاط فوري لحكومة “الذل والعار والفاسدة“: يُعتبر هذا المطلب الخطوة الأولى والأساسية، وهو تعبير عن فقدان الثقة الكامل بالحكومة الحالية.
2-تشكيل حكومة موحدة ومؤقتة: يدعو المتظاهرون إلى تشكيل حكومة موحدة لكافة التراب الليبي، على أن تكون لفترة زمنية محدودة ومهام محددة. هذه المهام تشمل:
. القيادة نحو الاستفتاء على الدستور.
. إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية.
. توحيد المؤسسات السيادية، بما في ذلك الجيش والشرطة.
. تسيير الأعمال الحياتية الأساسية للمواطن.
2-دعوة المفوضية العليا للانتخابات لعرض مسودة الدستور للاستفتاء الشعبي فوراً: يُعتبر الدستور الحجر الأساس لتنظيم الحياة السياسية في ليبيا، وضمان العيش بحرية وكرامة على كامل ترابها.
هذا المطلب يؤكد على أولوية الشرعية الدستورية كمسار للخروج من الأزمة.
3-دعوة للمجتمع الدولي: يُوجه البيان نداءً صريحاً إلى البعثة الأممية في ليبيا والأطراف الدولية، بـ”احترام الليبيين والاستماع إلى صوت وإرادة الشعوب”.
ويُشدد على ضرورة “الانحياز لها وأن يكونوا جزءاً من الحل وشريكاً في علاج الأزمة”.
هذا المطلب يعكس إدراكاً للدور المحوري للمجتمع الدولي، ولكنه يرفض أي تدخل لا يتماشى مع إرادة الشعب الليبي أو لا يصب في مصلحة الحل الجذري.

تداعيات وتطلعات: إلى أين يتجه المشهد الدراماتيكي؟
تُشكل هذه الاحتجاجات الأسبوعية، التي تُنظم بشكل سلمي، نقطة تحول حاسمة في المشهد الليبي.
فبعد سنوات من الانقسام السياسي والصراع المسلح، يتوحد الشارع الليبي حول مطالب محددة وواضحة، تُركز على الاستقرار المؤسسي، وإنهاء الفساد، واستعادة السيادة الشعبية عبر الانتخابات والدستور.
تُضع هذه التطورات ضغطاً هائلاً على حكومة الوحدة الوطنية والبعثة الأممية والأطراف الدولية الفاعلة.
فهل ستستجيب القوى السياسية لهذا الانفجار الشعبي؟
وهل ستُترجم هذه الجموع الهادرة في الميادين إلى تغييرات جذرية على الأرض؟
مع استمرار المتظاهرين في التظاهر السلمي ومراقبة مجريات الأمور “إلى حين تنفيذ مطالبنا الشرعية”، تبقى ليبيا على مفترق طرق حاسم، حيث يتصارع اليأس والأمل في تحديد مسار مستقبلها.