شغف الرمال: قصة إصرار ليبي في قلب قرطاج

على أرض تونس الخضراء، حيث تُعانق أصالة الخيل حماس السباقات، وعلى مضمار “قصر سعيد” التاريخي الذي يتردد فيه صدى حوافر الخيل، شهد يوم 18 مايو 2025 فصلاً جديداً من فصول التحدي والشغف الليبي.

لم يكن مجرد سباق للخيول العربية الأصيلة، بل كان ملحمة تُروى فيها قصص العزيمة والإصرار وتجسدت فيها أحلام ملاك وأسطبلات حملوا على عاتقهم شرف تمثيل ليبيا في المحفل الدولي

. وقد حلّق الشغف الليبي نحو هذا الموعد المرتقب، كما تحلّق أرواح المتسابقين بخفة ورشاقة، وبنفس الانسيابية التي تُقلّ بها طائرات “برنيق الليبية” جمهورها العريض عبر الأجواء، حاملةً معها أصالة الأرض وسرعة الريح.

هنا، اجتمعت نخبة الخيول، تجسيداً للجمال والقوة، مثل “المال” الذي يُعرف بسرعته الفائقة وهدوئه المعهود، تماماً كراحة السفر الذي تتوقعه من كل رحلة.

كانت هذه الخيول، بهدوئها المُلفت قبل الانطلاق وسرعتها المذهلة حين تُطلق العنان، تُشير إلى أن التحدي القادم سيكون استثنائياً بكل المقاييس.

"المال" يعاند القدر: حلم يتحطم في اللحظات الأخيرة

كانت الأنظار كلها تتجه نحو الجواد الليبي المال، نجم أسطبلات ذات الرمال، الذي حجز مكانه بجدارة في “الجائزة الكبرى لقرطاج” – الشوط الأبرز والأكثر ترقباً.

هذا الجواد الذي انتقلت ملكيته مؤخراً إلى أسطبلات ذات الرمال من المالك القدير “عز الدين الهاشمي”، والذي يعود نسبه إلى عراقة “المنجز وملهيكة”، كان يحمل آمالاً كبيرة.

تدرب تحت إشراف المربي القدير “سيف الحق القويدي” وبقيادة الماهر “مبشر القويدي”، وتأهل ببراعة في ليبيا، ليُصبح أيقونة للسباق المنتظر.

لكن، وكما يحدث في الدراما الأكثر إثارة، تدخل القدر في اللحظات الأخيرة

وفي تلك اللحظات الفاصلة التي سبقت إعلان الانسحاب، كانت عيون المدربين والملاك تتشبث بـ “المال” الذي بدا وكأنه يئن، لتعكس في نظراته مزيجاً من الألم وخيبة الأمل.

كانت لحظة صمت مطبق خيمت على الأجواء، قبل أن تُعلن الأخبار الصادمة. إصابة طارئة عاندت “المال” وحرمته من خوض غمار الشوط، ليتبدد حلم تتويج طال انتظاره، وتتحول القلوب إلى قلوب مثقلة بالأمل المكسور، وصدى التنهيدات الخافتة للمتفرجين يتردد في المضمار.

عزيمة لا تلين: مشاركات ليبية تُشرّف في قلب المنافسة

لكن الروح الليبية، التي عُرفت دوماً بالصبر والتحدي، لم تعرف اليأس. فبينما كانت قلوب “ذات الرمال” تعيش مرارة الغياب القسري لـ”المال” عن الشوط الأبرز، كانت هناك مشاركات ليبية أخرى تُشرّف وتُبشر بمستقبلي واعد.

في الشوط التاسع المثير، الذي شهد تنافساً شرساً بين 20 جواداً من أندر الخيول العربية الأصيلة – إناث وذكور كاملة البلاغة من عمر 4 سنوات فما فوق، ومسجلة بدفاتر نسب بلدانها ومعترف بها من قبل المنظمات العالمية للخيول العربية (WAHO) – لم تغب البصمة الليبية.

بوزن 55 كغ للخيول ذات الأربع سنوات و58.5 كغ لمن فوقها، كانت المشاركة الليبية حاضرة بقوة بثلاثة خيول، أبت إلا أن تُثبت جدارتها على مضمار الـ 2000 متر.

نجد أيضاً من المشاركات الأخرى من الملاك الليبيين، أسطبلات أبو شكيوات، بقيادة الجواد نفيس الخيول والراكب “هيقولو بوك”، والذي يعود نسبه إلى (تيدجام لوتوا وفجرة)، ويدربه عماد الحطاب.

بالإضافة لمشاركة المالك “ماهر بوزيد شقلوف” بالجواد نيمار العرب والذي يعود نسبه إلى (كانداري دي فالقاس وغزلان الليل)، ويدربه علي القبادي، والراكب عادل القيادي.

عرابي عمار": ومضة أمل قبل الانفجار

لم تفقد أسطبلات ذات الرمال بصيص الأمل.

ففي الشوط السادس من السباق (صنف 1) للمهار الكاملة والمهرات العربية الأصيلة والبالغة من العمر 4 سنوات بوزن 57 كغ ومسافة 2000 متر، تألق الجواد عرابي عمار لمالكه “محمد الدبيبة”.

بقيادة المتألق “خالد عزيز” وتدريب زياد الراجحي، هذا المهر الواعد، الذي يعود نسبه إلى “تيدجام وزهرة العاشقة”، أظهر أداءً مشرفاً وحقق الترتيب الثاني، ليُسجل نقطة ثمينة ويُعيد بعض البهجة إلى قلوب فريق “ذات الرمال”.

بينما فاز بهذا الشوط الجواد التونسي “عمران جرجيس” لمالكه “محمد بن عمري” للراكب “سيف خوار” بوزن 57 كغ، وعمره 4 سنوات ويعود نسبه إلى (دجلمان وأعجوبة) ومدربه “صبري القاسمي”.

كان هذا الأداء بمثابة الشرارة التي سبقت الانفجار الكبير، فـ”ذات الرمال” أبت إلا أن تعود إلى ليبيا حاملة معها مجداً يستحق أن يُروى.

"لاس فيغاس": الانتقام الأسطوري وصوت النصر المجلجل

وكأن القدر أراد أن يعوض مرارة “المال” بإنجاز أكبر، وأن يكتب نهاية درامية مُبهرة. في الشوط الأخير، حيث تشتد المنافسة وتتصاعد الأنفاس، وحيث كانت توترات اللحظات الأخيرة تُرسم على وجوه الفرسان، وتُسمع نبضات قلوب الجمهور المختلطة بالترقب والخوف، حلّق الجواد لاس فيغاس” (Las Vegas) من أسطبلات ذات الرمال كطائرة “برنيق للطيران” في سماء النصر.

بقيادة الفارس المبدع “خالد عزيز”، وتحت إشراف المدرب المخضرم “محمد قويدر”، انطلق “لاس فيغاس” بسرعة خيالية، متجاوزاً جميع منافسيه بمسافة مريحة، ليُحقق الترتيب الأول في مسافة 2000 متر!

عند خط النهاية، لم يكن الفوز مجرد رقم، بل كان صرخة مجلجلة من الفارس “خالد عزيز” وهو يُعانق “لاس فيغاس”، واختلاط صياح الجمهور بالتصفيق الهادر الذي ارتفع عالياً، وكأن كل ليبي في المدرجات يصرخ باسم “المال” الذي لم يشارك، وباسم “لاس فيغاس” الذي أتى بالثأر. نظرات “لاس فيغاس” بعد الفوز، كانت تحمل في طياتها مزيجاً من الإرهاق والفخر، وكأنه يدرك حجم الإنجاز الذي حققه لأصحابه ووطنه.

لقد كان هذا الفوز ليس مجرد تتويج لجواد، بل كان تتويجاً للإصرار الليبي، وصرخة انتصار مدوية أعلنت أن العزيمة لا تعرف المستحيل.

لقد كانت لحظة مجد أعادت البسمة إلى الوجوه، وأثبتت أن الشغف بالخيل في ليبيا قادر على تجاوز كل التحديات.

نحو شراكة واعدة: حلم يوم السباقات التونسي الليبي

هذا النجاح الباهر يفتح آفاقاً واسعة لمستقبل الخيل الليبية.

فقد طُرح في مناسبات سابقة موضوع تنظيم “يوم سباقات تونسي ليبي” في ختام الموسم بميدان قصر سعيد بتونس.

هذا الحلم ليس مجرد فكرة عابرة، بل هو رغبة من شركة سباق الخيل والهيئة الليبية لسباقات الخيل الليبية وبعض كبار مالكي الخيل في ليبيا، لتعزيز الشراكة بين الأشقاء في هذا القطاع الواعد.

أن تكون هناك سباقات للخيول العربية الأصيلة مفتوحة دولياً، نظراً للحماسة والمنافسة الكبيرة التي يشهدها ميدان قصر سعيد بحضور مشاركين من ليبيا.

إنها دعوة للملاك والمدربين والجمهور للاستعداد لملحمة جديدة، حيث تتلاقى الخبرات، وتشتعل المنافسة الشريفة، وتُكتب فصول جديدة من المجد. إن شاء الله يرى هذا البرنامج النور في أقرب الآجال، حتى يتسنى للمالكين تحضير خيولهم، وكذلك لداعمي السباقات لترتيب كل تفاصيل يوم السباقات التونسي الليبي.

إن ما حدث في كأس تونس 2025 لم يكن مجرد سباق، بل كان قصة شغف وإصرار وعزيمة، تُروى على ألسنة العشاق وتتجسد في عيون الخيل الأصيلة.

فهل ستكون قصة “لاس فيغاس” بداية لسلسلة انتصارات ليبية قادمة في المحافل الدولية؟

الأيام القادمة ستحمل الإجابة، ولكن المؤكد أن روح التحدي الليبية لن تعرف الاستسلام.

المزيد من الكاتب

السودان في عين العاصفة: البرهان يُعيد تشكيل “القيادة” والولايات المتحدة تطلق “اتهامات كيميائية” وسط معارك ضارية!

غزة: حصارٌ، مجاعة، وقذائف من اليمن… نتنياهو يتصلب، وأوروبا تستنكر، بينما المجهول يُخيّم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *