في لحظة تاريخية فارقة، طوت المملكة المتحدة صفحة دامت لأكثر من قرنين من الزمن، معلنةً تنازلها عن السيادة الكاملة على أرخبيل تشاغوس لموريشيوس بموجب اتفاقية حديثة. لم يكن هذا التنازل مجرد إجراء دبلوماسي روتيني، بل هو تتويج لصراع قانوني وسياسي طويل الأمد، ويحمل في طياته تداعيات عميقة على مستقبل المنطقة، وعلى حياة السكان الأصليين المهجرين، وعلى مصير قاعدة دييغو غارسيا العسكرية الأمريكية الحيوية التي تقع ضمن الأرخبيل.
الخلفية التاريخية: جذور السيطرة البريطانية وفصل تشاغوس المثير للجدل
تعود جذور السيطرة البريطانية على أرخبيل تشاغوس، الذي يقع في قلب المحيط الهندي الاستراتيجي، إلى أوائل القرن التاسع عشر. فمنذ عام 1814، أصبحت الجزر جزءاً لا يتجزأ من مستعمرة موريشيوس البريطانية. لكن في عام 1965، وعشية استقلال موريشيوس عام 1968، اتخذت بريطانيا خطوة مثيرة للجدل وغير مسبوقة: فصل أرخبيل تشاغوس عن موريشيوس لتشكيل “إقليم المحيط الهندي البريطاني”.
هذه الخطوة، التي أكدت المحكمة الدولية للعدل في لاهاي عام 2019 أنها كانت غير قانونية كون موريشيوس كانت لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية، كانت مدفوعة بشكل أساسي برغبة الولايات المتحدة الأمريكية في إنشاء قاعدة عسكرية ضخمة في جزيرة دييغو غارسيا، أكبر جزر الأرخبيل.
ما تلا ذلك كان فصلاً مظلمًا في تاريخ حقوق الإنسان. ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، قامت بريطانيا بطرد قسري لجميع سكان تشاغوس الأصليين، المعروفين باسم “الإيلوا”، لتفسح المجال أمام بناء القاعدة العسكرية. لقد تم ترحيل الآلاف من منازلهم الأبدية في ظروف قاسية ولا إنسانية، وزُج بهم في بؤس وفقر في موريشيوس والمملكة المتحدة. أصبحت قاعدة دييغو غارسيا بعد ذلك مركزاً لوجستياً رئيسياً يدعم العمليات العسكرية الأمريكية في فيتنام، العراق، أفغانستان، ويضم قدرات حيوية للقصف النووي والعمليات الاستخباراتية، ما جعلها ركيزة أساسية للأمن الإقليمي والعالمي من منظور غربي.
النزاع القانوني والدولي: تصاعد الضغط على ويستمنستر
على مدار العقود التالية، لم تتوقف موريشيوس عن مطالبتها باستعادة السيادة على تشاغوس، مدعومةً بمزاعم قانونية قوية.
تصاعد الضغط الدولي بشكل كبير في السنوات الأخيرة، خاصة بعد رأي المحكمة الدولية للعدل عام 2019 الذي أكد أن فصل الأرخبيل كان غير قانوني، تلاه قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب المملكة المتحدة بإنهاء إدارتها. هذه الأحكام والقرارات الدولية لعبت دوراً حاسماً في دفع لندن نحو طاولة المفاوضات.
الاتفاقية التاريخية: تفاصيل وشروط معقدة
بعد مفاوضات استمرت لسنوات، تم التوصل إلى اتفاق تاريخي في أكتوبر 2023 (على الرغم من التأخير في التوقيع الرسمي بسبب التغيير السياسي في موريشيوس واختلافات داخلية في المملكة المتحدة).
بموجب هذه الاتفاقية، وافقت المملكة المتحدة على التنازل عن السيادة الكاملة على أرخبيل تشاغوس لموريشيوس.
غير أن الاتفاق لم يخلُ من تعقيدات وشروط. فقد تضمن بنداً مالياً مهماً: ستدفع المملكة المتحدة لموريشيوس 120 مليون يورو سنوياً لمدة 99 عاماً، لتغطية نفقات قاعدة دييغو غارسيا.
الأهم من ذلك، أن الاتفاقية تضمنت ضمانات صارمة لحماية مستقبل القاعدة العسكرية الأمريكية-البريطانية، حيث ستظل القاعدة تعمل كالمعتاد تحت شروط تأجير طويلة الأجل لموريشيوس.
وتشمل هذه الضمانات منطقة استبعاد بحري بطول 39 كيلومتراً حول دييغو غارسيا، وحق النقض البريطاني على أي تطورات مستقبلية قد تؤثر على القاعدة، وتواجد قوة أمنية غربية لضمان سلامتها.
كما يفتح الاتفاق الباب أمام موريشيوس لتنظيم إعادة توطين السكان الأصليين في الجزر، وإنشاء صندوق ائتماني لمساعدتهم، رغم أن حق العودة الكامل إلى دييغو غارسيا نفسها لا يزال غير مضمون بالكامل.
ردود الفعل والتداعيات: أصداء الاتفاقية
كانت ردود الفعل على الاتفاق متباينة ومعقدة. في المملكة المتحدة، وصف رئيس الوزراء كير ستارمر الاتفاق بأنه “حماية قوية” لأمن البلاد، مؤكداً أن القاعدة حيوية لمكافحة الإرهاب والاستخبارات.
وقال ستارمر: “القبول بهذا الاتفاق يضمن لنا حماية قوية، ويسمح لنا بالعمل بشكل أفضل في المستقبل، مما يساهم في الحفاظ على الأمن لأجيال المستقبل”.
من جانبه، أكد وزير الدفاع أن الاتفاق يتضمن أربعين حماية تضمن استمرارية عمل القاعدة.
لكن الاتفاق لم يمر دون انتقادات داخلية. فقد أعربت زعيمة المعارضة كيمي بادينوش عن قلقها من أن التخلي عن أراضٍ بريطانية قد يؤدي إلى تدخل قوى مثل روسيا أو الصين، وصرّحت: “لا نريد أن ندفع للاستيلاء على الأراضي البريطانية في موريشيوس”.
في موريشيوس، رحب رئيس الوزراء نافين رامغولام بالاتفاق باعتباره انتصاراً للسيادة الموريشيوسية.
ومع ذلك، عبر بعض ممثلي سكان تشاغوس الأصليين، مثل برناديت دوغاسي وبياتريس بومبي، عن مشاعر مختلطة. فبينما يمثل الاتفاق خطوة نحو العدالة، وصفته بومبي بأنه “يوم حزين جداً”، مؤكدة أن “أطفالنا قد ولدوا في الستينيات.
موريشيوس لن تتنازل”. هذا يعكس عمق الجرح الذي خلفه الطرد القسري، والرغبة العميقة في العودة إلى موطن الأجداد.
من جانب الولايات المتحدة، لاقى الاتفاق ترحيباً.
فقد وافق وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو على الاتفاق، مؤكداً أن دييغو غارسيا “تدعم الوظيفة على المدى الطويل، والاستقرار والفعالية”، واصفاً إياها بأنها “مصدر نقدي للأمن الإقليمي والعالمي”.
التحليل والتداعيات المستقبلية: نهاية حقبة وبداية فصل جديد
يمثل التنازل البريطاني عن سيادة تشاغوس نهاية حقبة استعمارية دامت قرنين، وخطوة مهمة نحو تسوية نزاع إقليمي طال أمده. إنه يجسد تحولاً في المشهد الجيوسياسي، حيث تجد القوى الاستعمارية السابقة نفسها مضطرة للاستجابة للمطالبات الدولية والعدالة التاريخية.
ومع ذلك، تظل هناك تحديات. فمستقبل سكان تشاغوس الأصليين، وحقهم الكامل في العودة والتعويض، سيبقى قضية محورية.
كما أن الترتيبات المعقدة لقاعدة دييغو غارسيا تثير تساؤلات حول طبيعة السيادة الموريشيوسية الجديدة، وكيف ستتعايش مع الوجود العسكري الأجنبي المهيمن. هذا الاتفاق، بقدر ما يغلق فصلاً طويلاً من التاريخ، فإنه يفتح فصلاً جديداً مليئاً بالتعقيدات السياسية والإنسانية والأمنية.
هل يمثل هذا الاتفاق نموذجاً لحل النزاعات الإقليمية المتبقية من الحقبة الاستعمارية؟
وما هو المدى الذي ستتحقق فيه العدالة الكاملة لجميع الأطراف المتأثرة؟
هذه الأسئلة ستبقى معلقة، بينما ترسم تشاغوس فصلاً جديداً في تاريخها.