في يوم الخامس عشر من مايو 2025، وبينما كانت العاصمة الليبية طرابلس تستعد لاستقبال وعود حكومية بـ”فرض هيبة الدولة وبسط سلطة القانون”، اهتزت المدينة على وقع تحركات عسكرية مفاجئة وردود فعل شعبية وسياسية عكست عمق الأزمة المتجذرة.
ففي خطوة وُصفت بـ”التاريخية”، أطلق رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، سلسلة من القرارات الجذرية التي تستهدف إعادة رسم الخريطة الأمنية للعاصمة، مؤكداً العزم على إنهاء حقبة الفوضى وحصر المهام الأمنية في المؤسسات النظامية.
لكن سرعان ما اصطدمت هذه الطموحات بواقع ميداني متفجر، فبينما كانت البيانات الرسمية لحكومة الوحدة الوطنية تتحدث عن إعادة هيكلة شاملة، شهدت طرابلس تحركات عسكرية سريعة ومفاجئة لقوات اللواء 444، مدعومة بقوات أخرى تبين لاحقًا أنها اللواء 111 مجحفل، الذي ينحدر غالبية أفراده من مدينة مصراتة.

هذه القوات تمكنت خلال ساعات قليلة من السيطرة المؤقتة على عدة مواقع استراتيجية في العاصمة، شملت مقر الهجرة غير الشرعية بطريق السكة، والاستراحة الحمراء وما جاورها، بالإضافة إلى السيطرة على نقاط تمركز تابعة لقوات الردع في عدة أماكن بوسط البلاد.
ولم يتضح على الفور ما إذا واجهت هذه القوات مقاومة كبيرة أثناء تحركاتها، وفي المقابل، وكتعبير عن رفض شعبي وسياسي للنهج الحكومي، صدر بيان قوي ومباشر عن مكونات منطقة سوق الجمعة بتاريخ 13 مايو 2025.
البيان، الذي لاقى انتشاراً واسعاً بين سكان العاصمة، حذر بشدة من ‘أي قرار انتقائي أو مسيس يوجه ضد تشكيلات أمنية في العاصمة فقط’، مشيراً إلى استياء من عدم شمولية القرارات للتشكيلات العسكرية الأخرى في مدن مثل مصراتة.

وطالب البيان بـ ‘قرار شامل وواضح يصدر عن أعلى سلطة شرعية ويطبق على كافة التشكيلات المسلحة في كل المدن الليبية دون استثناء’، مؤكداً على التمسك بالدولة وسيادة القانون مع رفض أي محاولة لاستهداف مكونات طرابلس أو كسر توازن القوى الوطنية بذريعة تنظيم السلاح.
لم يقتصر الأمر على ذلك، فسرعان ما اتسع نطاق التوتر ليشمل مناطق أخرى من العاصمة ، تقدم قوات من مدن الغرب الليبي لتصل إلى مناطق السياحية، والغيران، لتندلع اشتباكات عنيفة امتدت نيرانها إلى منطقة السراج.
وشهدت العاصمة مواجهات مختلفة بين قوات الردع واللواء 444 في عدة مناطق منها بن عاشور، ورأس حسن، والدهماني، وطريق الشط، والنوفليين ، كشفت عن صراع نفوذ وتنافس محموم بين القوى الأمنية المسيطرة على الأرض. وبلغ التصعيد ذروته بقيام قوات الردع باستهداف معسكر التكبالي بمدفعية الهاون، دون أن تتمكن من السيطرة على المقر حتى اللحظة.

وقد أشارت التقارير إلى أن الاشتباكات توقفت مؤقتاً بعد صدور بيان وزارة الدفاع بحكومة الوحدة الوطنية.“
وفي محاولة لاحتواء هذا التصعيد، صدر بيان عن وزارة الدفاع في 13 مايو، معلناً عن وقف إطلاق النار ونشر “وحدات محايدة” في نقاط التماس.
لكن هذا الإجراء، الذي بدا ظاهرياً كمحاولة لتهدئة الأوضاع، حمل في طياته دلالات أعمق حول مدى الثقة المتآكلة في المؤسسة العسكرية نفسها.
فالحاجة إلى قوات “محايدة” تشير بوضوح إلى انعدام الثقة بين القوات المتنازعة، بل وربما داخل صفوف وزارة الدفاع ذاتها، التي بدت عاجزة عن الاعتماد على وحداتها الأساسية لفرض الأمن والاستقرار.

هذا التصدع في هيكل المؤسسة الأمنية يمثل تحدياً كبيراً أمام أي جهود حقيقية لتوحيد القوات وبسط سيطرة الدولة.
لاحقاً، وفي الرابع عشر من مايو، صدر تصريح صحفي من وزارة الدفاع يعلن عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في محور الغيران – جنزور، وتكليف اللواء 52 بتأمين المنطقة.
هذه الخطوة، وإن بدت إيجابية، إلا أنها جاءت في سياق أوسع من التوتر والانقسامات، مما يطرح تساؤلات حول مدى استدامة هذه التهدئة وقدرتها على التوسع لتشمل باقي المناطق المتضررة.

وفي خضم هذه التطورات المتسارعة، برز صوت سياسي معارض قوي تمثل في بيان المجلس الأعلى للدولة.
المجلس، وبلهجة حادة، حمّل الحكومة مسؤولية “الأحداث الدامية” في طرابلس، واصفاً قراراتها بـ”العبثية والانتقائية”.
البيان لم يتردد في التعبير عن قلقه البالغ من “العواقب الكارثية” لهذه القرارات على أمن العاصمة وسلامة سكانها، مطالباً بوقف فوري لإطلاق النار وحاثاً المجلس الرئاسي على التدخل الفاعل لوقف “العبث” بالعاصمة.

تأثير داخلي ينذر بالخطر:
تُلقي هذه الأحداث بظلال قاتمة على الوضع الداخلي في ليبيا، فتعليق الدراسة في طرابلس الكبرى يمثل تجسيداً ملموساً لتأثير العنف والفوضى على حياة المدنيين اليومية، حالة عدم الاستقرار والخوف والقلق تخيم على السكان، بينما تتكشف الانقسامات الأمنية والسياسية لتزيد من هشاشة وحدة الدولة ومؤسساتها.
وفقدان الثقة في المؤسسة العسكرية، كما يتضح من الحاجة إلى “وحدات محايدة”، يقوض قدرة الدولة على فرض الأمن وسلطة القانون.

تداعيات دولية محتملة:
على المستوى الدولي، تُظهر هذه الأحداث صورة قاتمة عن الوضع في ليبيا، مما قد يعرقل جهود الوساطة الدولية ويزيد من تعقيد مهمة المبعوث الأممي.
كما يمكن أن يؤثر هذا التصعيد على علاقات ليبيا مع الدول الإقليمية والدولية ذات المصالح في البلاد، ويفتح الباب أمام استغلال الفوضى من قبل جماعات متطرفة أو قوى خارجية تسعى لتعزيز نفوذها في المنطقة.
إن “القرارات التاريخية” التي أعلنت عنها حكومة الدبيبة في محاولة لإعادة هيكلة أمن طرابلس، سرعان ما تحولت إلى شرارة أوقدت عاصفة من الفوضى والعنف، كاشفة عن انقسامات عميقة تهدد استقرار العاصمة ومستقبل البلاد.
وبين بيانات رسمية متضاربة وأصوات معارضة متصاعدة، يبقى المشهد في طرابلس هشاً وقابلاً للانفجار في أي لحظة، مؤكداً على الحاجة الماسة إلى حوار شامل ومصالحة وطنية حقيقية لمعالجة الأسباب الجذرية لهذا الصراع المدمر.