

في قلب المنافسات الشرسة لرمي القرص، حيث القوة والثبات هما مفتاح النصر، سطعت نجمة ليبية تحدت الصعاب وكتبت فصلاً جديداً في تاريخ ألعاب القوى العربية.
إنها البطلة رتاج السائح، التي عادت من رماد الاعتزال لتخطف ذهبية البطولة العربية الرابعة والعشرين لألعاب القوى 2025 في وهران، الجزائر، في مشهد يجسد الإصرار والعزيمة في أبهى صورهما.
قبل أن نخوض في تفاصيل هذا الإنجاز التاريخي، دعونا نتعرف على ساحة المعركة: مسابقة رمي القرص. هنا، داخل دائرة قطرها متران ونصف، يتنافس رياضيون يتمتعون بقوة جسدية هائلة لرمي قرص ثقيل لأبعد مسافة ممكنة.
تاريخ هذه الرياضة عريق، يعود إلى الألعاب الأولمبية القديمة، وشهد على أبطال خلدوا أسماءهم بأحرف من ذهب.
القرص، بوزن 2 كجم للرجال و1 كجم للسيدات، ليس مجرد أداة للرمي، بل هو رمز للقوة والمهارة التي تتطلب توازناً وقوة انفجارية لتحقيق أرقام قياسية عالمية.
من الفرنسية إيفون تمبوريه التي سجلت أول رقم قياسي عالمي مُصدَّق عام 1923، مروراً بماريا فيدلاكوفا أول امرأة تجاوزت حاجز الـ 100 قدم، وصولاً إلى الألمانية غابرييل راينش، حاملة الرقم القياسي الحالي برميتها الأسطورية البالغة 76.80 متراً عام 1988.
تاريخ رمي القرص للسيدات حافل بالإنجازات التي تجسد تطور هذه الرياضة.
أسماء مثل الكرواتية ساندرا إلكاسيفيتش والأمريكية فاليري ألمان وغيرهن، تركت بصمات لا تُمحى في تاريخ رمي القرص، كل واحدة منهن تحمل قصة كفاح وإصرار أوصلتها إلى منصات التتويج العالمية.
تأسس الاتحاد العربي لألعاب القوى عام 1975 في مدينة الرباط بالمملكة المغربية، وهو الهيئة المسؤولة عن تنظيم وتطوير ألعاب القوى في الوطن العربي.
يترأس الاتحاد الدكتور حبيب بن علي الربعان (رئيس مجلس الإدارة والرئيس العام للاتحاد)، ويضم في هيكله نائباً للرئيس عن قارة آسيا وهو الشيخ سالم العمر، ونائباً للرئيس عن قارة أفريقيا وهو الليبي الأستاذ محسن محمد السباعي.
كما تترأس لجنة السيدات في الاتحاد الجزائرية الأستاذة سكينه بوطمين.
في مدينة وهران الجزائرية، انطلقت فعاليات البطولة العربية لألعاب القوى، بمشاركة 11 دولة عربية وتحت قيادة الاتحاد العربي لألعاب القوى. وضمن هذا المحفل الرياضي العربي الكبير، كان المنتخب الليبي حاضراً ببطليه رتاج السائح وصقر رابح، وبقيادة الأستاذ علي مغربي عبدالسلام.
في اليوم الثاني للبطولة، وبينما كانت الأنظار تتجه نحو منافسات رمي القرص للسيدات، دخلت رتاج السائح إلى دائرة الرمي بثقة وإصرار.
كانت المنافسة شرسة، بوجود بطلات من تونس والجزائر ومصر، أسماء لامعة في سماء هذه الرياضة.
التونسيتان غفران الحمادي وشيماء شويخ، والجزائريات نبيلة بوناب وكاتيا حموراوي، والمصرية المتألقة يومنا أحمد محمد، جميعهن كنّ يطمحن للذهب.
المنافسة كانت قوية، والأرقام متقاربة، لكن رتاج السائح أظهرت عزيمة فولاذية.
في رمية تاريخية، استطاعت أن تحقق مسافة 51.09 متراً، متفوقة على أقرب منافساتها، التونسية غفران الحمادي، بفارق شاسع بلغ 4 أمتار! هذا الإنجاز لم يكن مجرد فوز، بل كان إعلاناً عن عودة قوية لبطلة ليبية لم تستسلم للظروف.
في الفترة المسائية لليوم الثاني من البطولة، اعتلت رتاج السائح منصة التتويج وهي تتوشح علم ليبيا، لتنال الميدالية الذهبية وسط تصفيق حار وهتافات الفخر.
أما الميدالية الفضية فكانت من نصيب التونسية غفران الحمادي (47.85 مترًا)، بينما حصدت التونسية شيماء شويخ الميدالية البرونزية (46.85 مترًا).
رتاج السائح، ابنة الـ 23 عامًا، بدأت مسيرتها الرياضية عام 2010 بتشجيع من والدها، سالم السائح، الذي كان لاعب كرة طائرة وأصبح مدربها.
رتاج تنتمي لعائلة رياضية، فشقيقتها الكبرى هي أيضاً رامية قرص. يبدو أن عشق هذه الرياضة يجري في عروقهن!
مسيرة رتاج مليئة بالإنجازات، فقد حققت ذهبيتي بطولة شمال أفريقيا عام 2012، وذهبيتين في البطولة العربية المدرسية في الكويت في نفس العام. وفي عام 2015، سطرت اسمها بأحرف من ذهب بتحطيمها الرقم القياسي العربي في بطولة العرب للناشئين برمية بلغت 51.67 متراً، محطمةً رقم المصرية إشراق جابر السيد الذي كان مسجلاً منذ عام 2010
لم تخلُ مسيرة رتاج من التحديات، فقد توقفت عن ممارسة الرياضة بسبب خلافات قبل أن تعود في عام 2020. وفي فبراير 2024، توجت بذهبية دورة الألعاب العربية للأندية للسيدات في الشارقة، قبل أن تعلن اعتزالها المفاجئ في أبريل الماضي.
لكن شغفها برمي القرص كان أقوى من قرار الاعتزال، لتعود في مايو 2025 وتحقق هذا الإنجاز التاريخي.
عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، عبّرت رتاج عن فرحتها بهذا الفوز ووجهت رسالة شكر مؤثرة: “اللهم لك الحمد والشكر يارب من نفس الملعب ونفس المكان اللي طلعت منه مصابة في 2023، اليوم روحت بالذهب لليبيا.
كل الشكر والتقدير للكابتن عبدالسلام الجهاني على وقفته معي للعودة بالذهب، ورئيس اتحاد ألعاب القوى محسن السباعي، والمدرب الوالد سالم السائح على وقفتهم معي في الملعب وطيلة وقت التدريب. ألف مبروك لليبيا، البطولة العربية للكبار / الجزائر“.
بادرت إدارة أكاديمية فرح، التي تنتمي إليها رتاج، بمشاركتها فرحة التتويج، مؤكدة فخرها ببطلتها وكل من يرفع راية ليبيا في المحافل الدولية.
بعد انتهاء منافسات اليوم الثاني، الخميس 1 مايو 2025، بلغ مجموع الميداليات 69 ميدالية (23 ذهبية، 23 فضية، 23 برونزية). تزعمت الجزائر الترتيب بحصد 28 ميدالية (8 ذهبية، 9 فضية، 11 برونزية)، تلتها مصر في المركز الثاني بـ 8 ميداليات (4 ذهبية، 3 فضية، 1 برونزية)، ثم تونس في المركز الثالث بـ 9 ميداليات (3 ذهبية، 3 فضية، 3 برونزية). أما ليبيا، فقد حققت حتى الآن المركز السابع برصيد ميدالية ذهبية وحيدة، ولكنها كانت ذهبية غالية حملت اسم البطلة رتاج السائح.
رتاج السائح.. اسم سيبقى محفوراً في تاريخ ألعاب القوى الليبية والعربية، قصة إصرار وعودة من أجل المجد!