ليبيا.. تاريخ من التعاملات الأمنية المتوترة مع الجماهير: من قمع الاحتجاجات إلى إشعال الثورات

ليبيا.. تاريخ من التعاملات الأمنية المتوترة مع الجماهير: من قمع الاحتجاجات إلى إشعال الثورات

بقلم : المهندس . أسامة محمد

تعود قضية تعامل القوات الأمنية الليبية مع الجماهير المحتجة إلى عقود مضت، تاركة وراءها سجلاً حافلاً بالأحداث المؤسفة التي لم تفلح في تقديم دروس مستفادة لوزارة الداخلية عبر تاريخها.

فمنذ عهد المملكة الليبية وصولًا إلى فجر ثورة فبراير وما تلاها من أحداث دامية، يظل نمط التعامل الأمني مع التجمعات العامة يشوبه القمع المفرط وعدم القدرة على استيعاب مطالب الجماهير المشروعة.

آخر فصول هذا التاريخ المؤلم تجسدت في الأحداث المؤسفة التي شهدتها مباراة الأهلي طرابلس الأخيرة في أبريل 2025، لتُعيد إلى الأذهان وقائع مماثلة أشعلت شرارة ثورات شعبية وأدت إلى خسائر فادحة في الأرواح.

هذا التحليل يسعى إلى تتبع هذا التسلسل التاريخي، والكشف عن جذور المشكلة، وتبيان الانعكاسات السلبية لهذا النهج على المجتمع الليبي وثقته في المؤسسات الأمنية.

لمحة عن قوة البوليس في عهد المملكة الليبية:

في فترة المملكة الليبية، كانت قوة البوليس تنقسم إلى بوليس اتحادي تابع لرئاسة مجلس الوزراء، وبوليس ولايات يتبع للإدارات المحلية.

اللافت في تلك الفترة، وبحسب ما ورد، أن قوة بوليس طرابلس الغرب كانت نموذجاً في التنظيم وحسن إدارة المرور، مما يشير إلى وجود قدرات مهنية وكفاءة في التعامل مع الشأن العام في تلك الحقبة.

محطة مؤلمة في بنغازي: أحداث القنصلية الإيطالية عام 2006:

في فبراير من عام 2006، شهدت مدينة بنغازي أحداثاً دامية عندما تظاهر ليبيون احتجاجاً على الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أمام القنصلية الإيطالية.

تطورت الاحتجاجات إلى اشتباكات مع قوات الشرطة، وتباينت الأنباء حول عدد القتلى والجرحى لكن المؤكد هو سقوط ضحايا وإصابات.

رد الفعل الرسمي الليبي تمثل في إيقاف وزير الأمن العام وعدد من المسؤولين وإحالتهم للتحقيق مع إدانة “الاستخدام المفرط للقوة”.

هذه الأحداث كانت بمثابة إنذار مبكر لخطورة التعامل العنيف مع الاحتجاجات الشعبية.

شرارة الثورة من قلب البيضاء: مباراة الأخضر والمريخ عام 2011:

شكلت مباراة كرة القدم بين نادي الأخضر الليبي ونادي المريخ السوداني في مدينة البيضاء يوم 16 فبراير 2011 نقطة تحول مفصلية في تاريخ ليبيا الحديث.

فبعد المباراة، خرجت مظاهرات سلمية تطالب بإسقاط النظام، لكن رد الفعل الأمني كان قمعياً وعنيفًا، حيث استخدمت قوات الأمن واللجان الثورية الذخيرة الحية ضد المتظاهرين.

هذه الأحداث المؤسفة أدت إلى سقوط قتلى وجرحى، وكانت الشرارة الأولى التي أشعلت فتيل ثورة شعبية شاملة في البلاد، وامتدت إلى مختلف المدن الليبية، لتطيح في نهاية المطاف بنظام معمر القذافي.

وقد أكد رئيس المجلس الانتقالي الليبي آنذاك، مصطفى عبد الجليل، أن الثورة اندلعت عقب هذه المباراة تحديداً.

تكرار السيناريو في طرابلس: أحداث مباراة الأهلي والسويحلي 2025:

بعد مرور سنوات على ثورة فبراير، وفي مشهد يُعيد نفسه بصورة مؤلمة، شهدت مباراة كرة القدم بين الأهلي طرابلس والسويحلي في أبريل 2025 أحداثاً مؤسفة.

تداول نشطاء مقاطع فيديو تُظهر دهس مشجعين بسيارة تابعة لقوات الأمن، بالإضافة إلى أنباء عن إطلاق نار.

سارعت وزارة الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية إلى إصدار بيان أعربت فيه عن أسفها وفتحت تحقيقًا في الحادثة، مشيرة إلى أن هذا التصرف فردي ولا يعكس سياسة الوزارة.

في المقابل، أدانت أندية الأهلي والاتحاد والأخضر هذه الأحداث وطالبت بتحقيق عاجل وشفاف ومحاسبة المسؤولين، مع التأكيد على حق الجماهير في التواجد الآمن في المنافسات الرياضية.

تحليل البيانات الصادرة: تباين اللهجات وتوحيد الإدانة في المشهد الرياضي الليبي

تعكس البيانات الصادرة عقب حادثة دهس المشجعين في طرابلس حالة من التباين في اللهجات وتوحيداً في الإدانة، ما يكشف عن طبيعة الأزمة وتداعياتها.

بيان وزارة الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية جاء بنبرة متحفظة، مع التركيز على وصف الحادث بأنه “واقعة مؤسفة” و”سلوك فردي”، مع التأكيد على فتح تحقيق وتحديد المسؤوليات.

اللافت هو إشارة البيان إلى “اعتداء بعض المشجعين على دوريات الشرطة”، وهو ما يمثل محاولة لتبرير الحادث أو على الأقل تقديم رواية مقابلة.

في المقابل، جاء بيان النادي الأهلي طرابلس بلهجة أكثر حدة، حيث أدان واستنكر بشدة الحادث، واصفًا إياه بـ”انتهاك صارخ لسلامة المشجعين” ومطالباً بتحقيق “عاجل وشفاف” ومحاسبة المسؤولين.

نادي الاتحاد، بدوره، تبنى لهجة أكثر غضباً واستياءً، مستحضراً حوادث مماثلة سابقة راح ضحيتها مشجعون، معتبراً استمرار هذه الاعتداءات “تمادٍ للمجرمين” ورفضاً للتساهل والإهمال.

في المقابل، حمل بيان نادي الأخضر من مدينة البيضاء موقفاً مختلفاً، حيث أعرب عن قلقه البالغ إزاء “تجاوزات مؤسفة وخطيرة” تمس سلامة المشجعين، ولكنه في الوقت نفسه ثمّن قرار وزارة الداخلية التابعة للحكومة الليبية في المنطقة الشرقية بمنع الحضور الجماهيري المتبقي من جولات الدوري، معتبراً إياه “قراراً مسؤولاً وشجاعاً”.

هذا البيان، الصادر من منطقة نفوذ حكومة أخرى، يشي بتوحيد القلق على سلامة الجماهير، ولكنه يقدم حلاً مختلفاً ويظهر دعماً لقرار اتخذ في سياق مغاير، ما قد يعكس اختلافاً في تقييم الوضع الأمني أو في آليات التعامل معه بين المنطقتين الشرقية والغربية.

دور المجتمع المدني والإعلام في تسليط الضوء على الانتهاكات:

تلعب منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان دوراً حيوياً في توثيق مثل هذه الانتهاكات التي تقوم بها القوات الأمنية ومطالبة وزارة الداخلية بفتح تحقيقات شفافة ونزيهة ومحاسبة المسؤولين عن أي تجاوزات.

كما تساهم هذه المنظمات في تقديم الدعم القانوني والنفسي للضحايا وعائلاتهم، والضغط من أجل إصلاحات هيكلية في المؤسسات الأمنية تضمن عدم تكرار مثل هذه الأحداث.

لا يمكن إغفال الدور الهام الذي يلعبه الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في نقل هذه الأحداث إلى الرأي العام، وتشكيل وعيه، والضغط على الجهات المسؤولة لاتخاذ إجراءات جادة.

فسرعة انتشار المعلومات والصور ومقاطع الفيديو عبر هذه المنصات تساهم في كشف الحقائق وتعبئة الرأي العام للمطالبة بالعدالة.

مقارنة دولية في التعامل مع التجمعات الجماهيرية:

على الصعيد الدولي، تتبنى العديد من الدول استراتيجيات متطورة في التعامل مع التجمعات الجماهيرية، بما في ذلك الفعاليات الرياضية.

تركز هذه الاستراتيجيات على التدريب المكثف للقوات الأمنية على أساليب فض الاحتجاجات غير العنيفة، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في المراقبة والسيطرة، والتنسيق الوثيق مع منظمي الفعاليات وممثلي الجماهير.

كما تولي هذه الدول اهتماماً كبيراً بتعزيز الشفافية والمساءلة في عمل الأجهزة الأمنية لضمان بناء الثقة مع الجمهور.

تحليل شامل: عقلية أمنية قاصرة وتجاهل للتاريخ؟

إن تتبع هذه الأحداث التاريخية يكشف عن نمط مقلق في تعامل القوات الأمنية الليبية مع الجماهير.

فبدلاً من التطور والتعلم من التجارب المريرة، يبدو أن عقلية إدارة وزارة الداخلية عبر التاريخ قد تجسدت فيها سياسة خاطئة في التعامل مع الاحتجاجات والتجمعات العامة. هناك قصور واضح في القدرات الفنية والذهنية على إدارة مثل هذه المواقف بحكمة واحترافية، بما يضمن سلامة الجميع ويحفظ الأمن دون اللجوء إلى العنف المفرط.

إن تجاهل الوزارة لهذا التسلسل التاريخي وعدم إيلائه الأهمية القصوى ينذر بخطر تكرار مثل هذه الأحداث المأساوية في المستقبل. فما حدث في البيضاء عام 2011 كان نتيجة مباشرة لتعامل أمني عنيف وغير مسؤول مع احتجاجات شعبية. وبالمثل، فإن أحداث مباراة الأهلي الأخيرة تحمل في طياتها إشارات خطيرة إلى استمرار نفس النهج القاصر في التعامل مع الجماهير.

الحلول المقترحة والنصائح الهامة لتحسين وزارة الداخلية والعقلية الأمنية:

إعادة هيكلة وتدريب: ضرورة إعادة هيكلة قطاعات الأمن المسؤولة عن حفظ النظام في التجمعات العامة، مع التركيز على تدريب العناصر على أساليب فض الاحتجاجات السلمية غير العنيفة، والتعامل الإنساني مع الجماهير.

تطوير القدرات الفنية والذهنية: الاستثمار في تطوير قدرات العناصر الأمنية على فهم ديناميكيات الحشود، وتقييم المخاطر بشكل دقيق، واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب.

تعزيز الشفافية والمساءلة: وضع آليات واضحة وفعالة للتحقيق في أي تجاوزات تحدث من قبل القوات الأمنية ومحاسبة المسؤولين عنها بشكل علني.

بناء الثقة مع المجتمع: تبني نهج أمني يركز على خدمة المواطن وحمايته، وتعزيز التواصل الإيجابي بين الشرطة والمجتمع، بما في ذلك الجماهير الرياضية.

الاستفادة من التجارب الدولية: دراسة تجارب الدول الأخرى في إدارة الفعاليات الرياضية الكبرى والتعامل مع الجماهير، وتطبيق أفضل الممارسات التي تتناسب مع السياق الليبي.

تغيير الثقافة المؤسسية: العمل على تغيير الثقافة المؤسسية السائدة في وزارة الداخلية بحيث ترتكز على احترام حقوق الإنسان، والالتزام بالقانون، وتجنب استخدام القوة المفرطة إلا في أضيق الحدود.

الاستماع إلى مطالب الجماهير: يجب على وزارة الداخلية أن تكون أكثر استماعاً وتفهمًا لمطالب الجماهير المشروعة، وأن تتعامل مع التجمعات العامة كفرصة للتواصل وليس كتهديد أمني.

مقترحات عملية لإصلاح وزارة الداخلية وتعزيز الأمن في التجمعات العامة:

لتجاوز الإخفاقات التاريخية في التعامل مع الجماهير وتجنب تكرار الأحداث المؤسفة، يتطلب الأمر تبني وزارة الداخلية الليبية سلسلة من الإصلاحات الهيكلية والاستراتيجية.

في مقدمة هذه الإصلاحات تأتي إعادة الهيكلة الشاملة لقطاعات الأمن المكلفة بحفظ النظام العام، مع إيلاء أولوية قصوى لـ تأهيل وتدريب العناصر الأمنية على أحدث الأساليب الدولية في فض الاحتجاجات السلمية وإدارة الحشود دون اللجوء إلى العنف.

يجب أن يركز التدريب على تعزيز التعامل الإنساني مع الجماهير وفهم ديناميكيات التجمعات العامة لتقييم المخاطر واتخاذ القرارات المناسبة بكفاءة.

بالتوازي مع ذلك، يتعين على الوزارة الاستثمار في تطوير القدرات الفنية والذهنية لعناصرها، بما في ذلك استخدام التكنولوجيا الحديثة في المراقبة وإدارة الحشود.

كما أن تعزيز مبدأ الشفافية والمساءلة يمثل حجر الزاوية في بناء الثقة مع المجتمع.

يجب وضع آليات واضحة للتحقيق الفوري والنزيه في أي تجاوزات من قبل القوات الأمنية، مع ضمان محاسبة المسؤولين عنها بشكل علني وشفاف.

ولتعزيز العلاقة بين المؤسسة الأمنية والمواطنين، لا بد من تبني نهج أمني يرتكز على خدمة وحماية المواطن.

يتطلب ذلك تعزيز قنوات التواصل الإيجابي بين الشرطة والمجتمع، بما في ذلك الجماهير الرياضية، والاستماع بجدية إلى مطالبهم المشروعة. كما يُنصح بـ دراسة التجارب الدولية الناجحة في إدارة الفعاليات الرياضية الكبرى والتعامل مع الجماهير وتطبيق أفضل الممارسات التي تتناسب مع السياق الليبي.

على المدى الطويل، يجب أن تتبنى وزارة الداخلية استراتيجية تهدف إلى تغيير الثقافة المؤسسية السائدة، بحيث ترتكز على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.

يجب أن يكون الهدف هو تجنب استخدام القوة المفرطة إلا كخيار أخير وفي أضيق الحدود، مع التأكيد على أن التجمعات العامة تمثل فرصة للتواصل والتعبير السلمي وليست تهديداً أمنياً يستدعي القمع.

إن التاريخ يحمل في طياته دروساً قيمة، وتجاهلها قد يؤدي إلى تكرار المآسي.

يجب على وزارة الداخلية الليبية أن تستوعب هذا الدرس جيداً وأن تعمل على تغيير جذري في طريقة تعاملها مع الجماهير.

فبدلاً من أن تكون أداة للقمع والعنف، يجب أن تتحول إلى قوة لحماية المواطنين وضمان حقهم في التعبير السلمي عن آرائهم.

وحده هذا التحول الجذري سيساهم في بناء مجتمع آمن ومستقر يثق في مؤسساته الأمنية ويعمل معها جنباً إلى جنب لتحقيق الأمن والرخاء للجميع.

المزيد من الكاتب

بيان رسمي: تأجيل مباريات الجولة 33 من الدوري الإيطالي حدادًا على رحيل البابا فرانسيس.. تحديد المواعيد الجديدة

صفحات تُطوى نحو مستقبل التعليم الأجنبي: رحلة لجنة إعداد اللوائح تَتَجلّى”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *